بيانات “فيسبوك” و”تويتر”.. هل تستطيع رسم صورة للطبيعة الإنسانية؟
كيف يمكن للبيانات المستقاة من “فيسبوك”، و”تويتر”، وغيرهما من المصادر، أن تُحدِث ثورة في العلوم الاجتماعية؟
أمضت إليزافيتا سايفاك ما يقارب عقدًا من الزمن في التدرّب كعالمة اجتماع، لكنْ في منتصف مشروع بحثي كانت تجريه، أدركت أنها بحاجة إلى العودة إلى الدراسة مرة أخرى.
وسايفاك متخصصة في دراسات العائلات والطفولة، في المدرسة العليا للاقتصاد بجامعة البحوث الوطنية في موسكو. وفي عام 2015، عكفت على تقصّي تحركات المراهقين عبر سلسلة من المقابلات، طلبت منهم فيها وصف عشرة أماكن توجهوا إلى زيارتها خلال الخمسة أيام السابقة على المقابلة. وبعد ذلك بعام، حللت ما جمعته من بيانات، وشعرت بالإحباط بسبب قصور الاعتماد على المقابلات وحدها. وعندها وجهها أحد زملائها إلى ورقة بحثية تحلل بياناتٍ مستقاة من مشروع “كوبنهاجن نيتووركس ستادي” Copenhagen Networks Study، وهو مشروع رائد يرصد البيانات الديموغرافية الخاصة بـ1000 طالب، ومواقعهم، وجهات اتصالهم على شبكات التواصل الاجتماعي بدقة كل خمس دقائق، على مدى خمسة أشهر1. عندئذ، فطنت سايفاك إلى أن مجال دراستها على وشك أن يشهد نقلة. وتقول في هذا الصدد: “أدركتُ أن أنواع البيانات الجديدة هذه سوف تُحْدِث ثورة في العلوم الاجتماعية إلى الأبد، وهو ما وجدته رائعًا”.
من هنا، قررت سايفاك تعلُّم البرمجة، والانضمام إلى حركة التغيير الثورية هذه. واليوم، تدرس مع متخصصين آخرين في علم الاجتماع الحاسوبي فوضى من مجموعات البيانات الهائلة، يستخلصون تأويلات لها من بصمات أفراد المجتمع الرقمية، إذ يتتبع هؤلاء العلماء أنشطة يقوم بها الأفراد عبر الإنترنت؛ بالتنقيب في دفاتر رقمية ووثائق تاريخية؛ بهدف تفسير البيانات الصادرة عن أجهزة استشعارٍ قابلة للارتداء، تسجل كل خطوة واتصال يقوم به هؤلاء الأفراد؛ كما يُجْرون استطلاعات رأي وتجارب عبر الإنترنت تجمع الملايين من نقاط البيانات؛ ويسبرون قواعد بيانات كبيرة للغاية، لا يمكن الخروج منها بما تتضمنه من أسرار حول المجتمع إلا بإجراء عمليات تحليل بيانات معقدة.
وعلى مدار العقد الماضي، استخدم الباحثون أساليب كهذه، لتحليل قضايا يسعى علماء الاجتماع للإجابة عن أسئلتها منذ أكثر من قرن؛ بداية من الأسس النفسية التي ترتكز عليها الأخلاق البشرية، إلى تأثير المعلومات المـُضللة، ووصولًا إلى العوامل التي تجعل بعض الفنانين أنجح من بعضهم الآخَر. فكشفت إحدى الدراسات –على سبيل المثال– عن عنصرية واسعة النطاق، تكمن في الخوارزميات التي توجّه عملية اتخاذ القرارات المتعلقة بالرعاية الصحية، في حين استعانت دراسة أخرى ببيانات الهواتف المحمولة، لوضع خريطة للمناطق التي ضربها الفقر في رواندا.
وفي هذا الصدد، يعلِّق ماركوس شتروماير -المتخصص في علم الاجتماع الحاسوبي، من معهد جيسيس لايبنيتز لعلوم الاجتماع بمدينة كولونيا في ألمانيا- قائلًا: “يتمثل الإنجاز الأكبر هنا في تغيّر نظرتنا إلى بيانات السلوك الرقمية، لتصبح مصدرًا شيقًا ومفيدًا للمعلومات”.
لكن هذا التحول لم يرحب به الجميع، فبعض علماء الاجتماع يجدون أنه من المقلق ألّا يتمتع علماء الحاسوب -الذين يغزون علم الاجتماع بأعداد هائلة، وتحدوهم طموحات كبيرة بحجم ضخامة مجموعات البيانات التي يملكونها- بدراية كافية عن البحوث السابقة. وأحد أوجه الشكوى الأخرى من هذا التحول تَمَثَّل في أن بعض باحثي علوم الحاسوب ينظرون في أنماط البيانات فحسب، دون أن يضعوا الأسباب في اعتبارهم، أو أنهم يقفزون إلى استنتاجات كبيرة من بيانات غير مكتملة، وغير منظمة، يحصلون عليها غالبًا من منصّات التواصل الاجتماعي، ومصادر أخرى تفتقر بياناتها إلى الصحة، لكن الانتقادات تسري من كلا الطرفين.. فبعض علماء الاجتماع الحاسوبي ممن خلفيتهم الأساسية هي مجالات مثل الفيزياء، والهندسة، يحاججون بأن العديد من نظريات العلوم الاجتماعية يتسم بالغموض الشديد، أو بأنه يفتقر بشدة إلى الوضوح، إلى حد لا يسمح باختبار صحة تلك النظريات.
كل هذا يتفاقم إلى “صراع على السلطة داخل معسكر العلوم الاجتماعية”، حسبما يقول مارك كويشنيج، اختصاصي علم الاجتماع التحليلي بجامعة لينشوبينج في مدينة نورشوبينج، في السويد، الذي يضيف قائلًا: “في نهاية المطاف، سيتقلد زمام العلوم الاجتماعية مَن يحسم هذا الصراع لصالحه”.
ويُذكر أنّ اتحادًا أخذ ينشأ بين كلا المعسكرين. ففي معرض الإشارة إلى الازدهار الذي تحقق على صعيد مشاركة بيانات الدوريات، والمؤتمرات، وبرامج الدراسات، يقول كويشنيج: “إن مساحات التداخل بين علم الاجتماع الحاسوبي، والعلوم الاجتماعية التقليدية تتزايد بالفعل”، مضيفًا: “وكذلك الاحترام المتبادل بين المجالين.”
ثورة حاسوبية
في عام 2007، عقدت مجموعة صغيرة من العلماء، ذوي طموحات كبيرة، اجتماعًا لمناقشة صنعة معالجة البيانات الناشئة في مجال علوم الاجتماع؛ إذ أرادوا استخدام مهاراتهم في هذا الاتجاه، بهدف تغيير العالم. وقال جاري كينج –أستاذ العلوم السياسية بجامعة هارفارد في كامبريدج، في ولاية ماساتشوستس– في كلمته بالاجتماع، إن طوفان المعلومات الرقمية “سيتيح جمْع قدر أكبر بكثير من المعلومات حول المجتمعات، ليمكن في نهاية المطاف البدء فعليًّا في حل المشكلات الرئيسة التي تؤثر على رخائها”.
وبحلول ذلك الوقت، كان عدد يسير من دراسات علوم الاجتماع الحاسوبية قد نُشر بالفعل. وعلى سبيل المثال، تناولت دراسة أجريت في عام 2006 دور التأثير الاجتماعي في شعبية الأعمال الموسيقية، وذلك من خلال إنشاء سوق اصطناعية لهذه الأعمال عبر الإنترنت، يستخدمها 14,341 شخصًا، حيث اختار المشاركون في الدراسة تنزيل الأغاني، بالاستعانة أحيانًا بمعلومات عن مدى شعبية تلك الأغاني بين زملائهم من مستخدمي السوق، وأحيانًا بدونها. وقد وجدت الدراسة أن التنبؤ بشعبية الأغاني يغدو أصعب مع تزايُد تأثر المستخدمين بسلوكيات الآخرين، وهو ما يطرح تفسيرًا لصعوبة توقُّع الأغاني التي تحقق نجاحًا سريعًا.
بعد ذلك بعامين، اضطلعت دراسة أخرى بتحليل تحركات 100 ألف شخص من مستخدمي الهواتف المحمولة، على مدار فترة تجاوزت ستة أشهر، لتجد أن الأفراد يتنقّلون وفق أنماط بسيطة وقابلة للتكرار، إذ تمكّن باحثو الدراسة من حساب احتمالية العثور على فرد في مكان بعينه، وأشاروا إلى أن تحديد أوجه التشابه في أنماط التنقل عبر مجتمع ما يمكنه أن يساعد على التخطيط الحضري، وفهم طرق انتشار الأمراض، أو الاستعداد لحالات الطوارئ.
وفي العام نفسه، نشرت مجلة “وايرد” Wired للتقنية مقالاً يسعى للبرهنة على أن عصر البيانات الضخمة سيعني نهاية النظريات في مختلف مجالات العلوم. وعلى الرغم من النقد الذي وُجه إلى هذا المقال على نطاق واسع، بوصفه يغالي في تبسيط الأمور، فقد دق هذا المقال بالفعل وترًا حساسًا، فبعد أكثر من عقد من الزمن على نشر المقال، ما زال علماء الاجتماع يستشهدون مرارًا وتكرارًا به في الإشارة إلى أن الأهمية التي تحظى بها نظريات العلوم الاجتماعية قد أصبحت عُرضةً للهجوم.
هذا.. ولكنّ البيانات الضخمة لم تستمر إلا في بسط نفوذها، حيث يرى دنكان واتس -عالِم الاجتماع بجامعة بنسلفانيا في مدينة فيلادلفيا- أن هذه التغييرات في مجال العلوم الاجتماعية تذكّرنا بما شهده علم الأحياء خلال تسعينات القرن الماضي، عندما بدأت التقنيات فائقة الإنتاجية في توليد كَمّ كبير من البيانات حول تسلسلات الأحماض النووية، والتعبير الجيني. ويضيف واتس قائلًا: “شهدنا فيضًا هائلًا من البيانات الجديدة، التي تطلّبت منا التفكير بشأن البيانات بطريقة مختلفة تمامًا”.
لكن عديدًا من علماء الاجتماع التقليديين لم تبهرهم الثمار الأوّلية لتلك الثورة، ورأوا أن بعض أساليبها محل شك، فتعامل المتشككون مع تجارب شبكات التواصل الاجتماعي باعتبارها تُجرى على آلاف المشاركين، دون علمهم، ولا موافقتهم. وفي عام 2018، ذاعت أخبار بأن شركة الاستشارات البريطانية “كامبريدج أناليتيكا” Cambridge Analytica قد جمعت بيانات من ملايين الحسابات على موقع “فيسبوك”، دون موافقة أصحابها. وما تزال تبعات هذه الفضيحة تدفع باتجاه المزيد من التمحيص والتشكك في الأبحاث التي تُجرى باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وتعثّرت مشروعات بعض علماء الاجتماع نتيجةَ تبنّي المنصات على الإنترنت سياساتٍ جديدة بشأن الخصوصية.
ارتباك في صفوف علماء الاجتماع
من جهة أخرى، تَعَرَّض علم الاجتماع الحاسوبي للوصم بسبب أوراق بحثية صدرت في وقت مبكر من هذه الحركة في علم الاجتماع، وتناولت ما يُعرف بـ”إشكاليات الألعاب”، أو بعبارة أخرى.. أسئلة يمكن الإجابة عنها من البيانات، لكن لم تتطرق إلى قضايا أساسية وراسخة في مجال علوم الاجتماع، مثل كيفية التصدي لعدم المساواة، أو التأثير في الرأي العام. فعلى حد قول كلوديا فاجنر، المتخصصة في علم الاجتماع الحاسوبي في معهد جيسيس لايبنيتز لعلوم الاجتماع: “في البداية، أُجريت دراسات كثيرة باستخدام “تويتر” Twitter، وأعتقدُ أن علماء الاجتماع لم يتحمّسوا لها كثيرًا”.
ويحاجج البعض بأن تبني نهج “إشكاليات الألعاب” كان في جزء منه –على الأقل– ناتجًا عن كون المجال ناشئًا، يسلك خطواته الأولى. ومع تطوُّر تحليل البيانات، وتزايُد تنوع مصادرها، أخذ المجال في معالجة قضايا أكثر أهمية، مثل جذور التمييز، وعدم المساواة، والتطرف، حسب قول شتروماير، الذي يضيف قائلًا: “الآن فقط صرنا نحصل على أنواع البيانات التي تسمح لنا بالنظر في القضايا الكبيرة”.
في العام الماضي، على سبيل المثال، استخدم باحثون من مجالي الصحة العامة والاقتصاد السلوكي سجلات الرعاية الصحية لأكثر من 50 ألف مريض في أحد أنظمة الرعاية الصحية في الولايات المتحدة لتحليل خوارزمية شائعة الاستخدام، تعمل على ترشيح أشخاص من ذوي الاحتياجات الطبية المعقدة، للخضوع لمزيد من الإشراف الطبي والتدخلات الصحية. وقد استخدم الفريق النمذجة لإثبات أن الخوارزمية كانت تمارس تمييزًا ممنهجًا تجاه السود، وهو ما قد يؤثر على الرعاية الصحية لملايين الأفراد. واستخدم الباحثون بعد ذلك المعارف المتوفرة بشأن أوجه التفاوت في توفير الرعاية الصحية في الولايات المتحدة؛ لتعقّب مصادر هذا التحيز، واقتراح طرق لمنعه. وعلى سبيل المثال، ينبغي ألا تفترض الخوارزميات أن المبلغ المـُنفَق على الرعاية الصحية للفرد يُعَدّ مؤشرًا جيدًا على القدر الذي يحتاجه من الرعاية؛ فبسبب عدم المساواة في فرص الحصول على الرعاية الصحية، تُنفق عادة أموال أقل على رعاية الأمريكيين السود، مقارنةً بنظرائهم البيض، حتى عندما يكون لديهم احتياجات الرعاية الصحية نفسها.
غير أن الوصول إلى بيانات جيدة لا يمثل التحدي الوحيد الذي يواجهه المجال؛ فالعلماء الوافدون إليه من خلفيات في الفيزياء أو علوم الحاسوب يُتّهمون بالفشل في تقصي النظريات التي وضعها علماء الاجتماع لتفسير السلوك البشري. وعن ذلك، تقول جوليا أندريجيتو التي درست الفلسفة، وتتخصص الآن في علم الاجتماع الحاسوبي في معهد العلوم والتقنيات المعرفية، التابع للمجلس الوطني الإيطالي للبحوث في روما: “يميل هؤلاء العلماء إلى البحث عن أنماط سلوكية، لكنهم لا ينظرون عادةً في الآليات التي تتولد تلك السلوكيات من خلالها”.
ويتطلب تحقيق ذلك فهمًا قويًّا لنظريات علوم الاجتماع. وعلى سبيل المثال، بدأت جيسون آن -الباحثة في علم الاجتماع الحاسوبي في جامعة حمد بن خليفة في الدوحة- رسالة الدكتوراة الخاصة بها في علوم الحاسب في عام 2010، لدراسة عمليات مشاركة الأخبار على شبكات التواصل الاجتماعي، في الوقت نفسه الذي بدأت فيه حركة علوم الاجتماع الحاسوبية في الازدهار. وفي البداية، عملت آن فقط مع علماء حاسوب آخرين، وكافحوا لاستيعاب النظريات المختلفة الخاصة بعلوم الاجتماع. والآن، تتعاون مع الباحثين في مجال علوم السياسة، لدراسة تأثير وسائل الإعلام على الرأي العام، والعكس، فضلًا عن دراسة كيفية تشجيع الناس على تعزيز التنوع في المصادر التي يستقون منها الأخبار. وتقول آن: “بمرور الوقت، أصبح كل جانب يفهم الآخر من حيث اللغة والأساليب”.
وثمة علامات ملموسة الآن على هذا التعاون. فمِن المقرر عقد المؤتمر الأول الذي سيجمع بين النهجين في عام 2021. وتعمل الجامعات أيضًا على إنشاء معاهد تجمع أعضاء هيئة تدريس من مختلف الأقسام، لسد الفجوة بين كلا المذهبين. على سبيل المثال.. تملك جامعة جورج مايسون في فيرفاكس بفرجينيا قسمًا مخصصًا لذلك الغرض. ويُقام معسكر صيفي لعلوم الاجتماع الحاسوبية في أكثر من 30 موقعًا حول العالم. وقد أدى وجود طائفة من الطلاب الشباب المتحمسين لهذا التعاوُن، إضافة إلى تزايُد عدد الوظائف المتاحة في هذا المجال، إلى تَوَلُّد أمل في أن ينحسر صراع السيطرة على هذا المجال، مُفْسِحًا لمساحة من التعاونٍ أكثر ثراءً.
وحدة بين علماء الاجتماع
يمكن لاتحاد النهجين أن يكون فعالًا. وعلى سبيل المثال.. استخدم عالِم البيانات جوشوا بلومنستوك -من جامعة واشنطن في سياتل- وزملاؤه بيانات الهاتف المحمول التي حصلوا عليها من ملايين الأشخاص في رواندا، بغرض استقراء حالة هؤلاء الأفراد الاجتماعية الاقتصادية، ثم تأكدوا من صحة ما توصلوا إليه من نتائج من خلال مقارنة هذه النتائج بالبيانات التي جُمعت باستخدام عمليات المسح الاستقصائي التقليدية. ويمكن –على سبيل المثال– أن يستخدم واضعو السياسات هذه الطريقة في استهداف المناطق الفقيرة التي تحتاج إلى تدَخُّلهم، أو في رصد آثار السياسات التي جرى سَنّها بالفعل، غير أن غياب التواصل بين المعسكرين ما زال جليًّا. وعلى سبيل المثال، تشير جوان دونوفان -عالمة الاجتماع من جامعة هارفارد- إلى دراسة نُشرت خلال العام الماضي، وضع فيها الباحثون مخططًا تمثيليًّا لشبكة تضم مجموعاتٍ تبث الكراهية على الإنترنت، من خلال منصات إلكترونية، مثل “فيسبوك”، و”فكونتاكتي” VKontakte، وأظهرت الدراسة كيف تَغيّر هيكل الشبكة بمرور الوقت.
وحسب ما أفادت به دونوفان، أخفق الفيزيائيون وعلماء الحاسوب الذين أجروا الدراسة في الاستشهاد بدراسات أساسية في مجال علوم الاجتماع في بحثهم. وبالتالي، فإن تأويلهم للنتائج التي توصلوا إليها لم يكن على أقصى درجة من الثراء. وفضلًا عن ذلك، قام باحثو الدراسة أيضًا بإجراء مسوح استقصائية على عدد قليل للغاية من منصات التواصل الاجتماعي، في الوقت الذي أظهرت فيه بحوث سابقة أن مجموعات بث الكراهية تتتبع قادةً يتمتعون بالحضور والتأثير في العديد من المواقع. وتوصّل الفريق كذلك إلى ما تعُدّه دونوفان استنتاجًا خطيرًا، وهو أن منصات التواصل الاجتماعي يمكنها محاولة التحكم في النقاش الدائر في أوساط مجموعات بث الكراهية –على سبيل المثال– عن طريق إنشاء حسابات زائفة، أو افتعال نزاعات داخلية بين هذه المجموعات. وحسبما ترى دونوفان، يمكن لذلك أن يؤدي إلى نتائج عكسية من خلال زيادة حجم النقاش داخل هذه المجموعات، ومن ثم زيادة تصنيفها على خوارزميات البحث. وتعتقد دونوفان أن تقليل انتشار رسائل الكراهية من خلال تصميم محركات البحث بما يتيح لها أن تحُدّ من ظهور مثل هذه الجماعات، يمكن أن يكون استراتيجية أفضل.
اعتاد الفيزيائي نيل جونسون -من جامعة جورج واشنطن في العاصمة الأمريكية واشنطن، والمؤلف الرئيس في دراسة الكراهية- على تلقّي الانتقادات من علماء الاجتماع. وهو يقول إنه استشهد بأكثر المَراجع صلة بالموضوع. وفيما يتعلق بخوارزميات البحث، فإن شركات منصّات التواصل الاجتماعي تملك القدرة على التلاعب بها، “تماماً مثلما تفعل الآن لمنع تصدُّر الصفحات والمجموعات التي تنشر المعلومات المضللة بشأن مرض “كوفيد- 19” COVID-19، والتي تكافح اللقاحات، على حد تعبيره. وتجدر الإشارة إلى أن جونسون درَس نشْر المعلومات المضللة، والصراعات، وظواهر التطرف، وهو يقول إنه يتلقى اعتراضات في كل مرة ينشر فيها ورقة بحثية رفيعة المستوى. ورغم ذلك، فإن عمله لاقى استحسانًا من صُنّاع السياسات، فكثيراً ما يُطلب منه تقديم استشارات لمنظمات تعجبها المعلومات الكمية التي تقدمها أبحاثه، وكذلك قدرتها على نمذجة الآثار التي يمكن أن تُسفر عنها التدخلات. وهو يقول في ذلك الصدد: “يمكننا بالفعل النظر في إشكاليات محددة بطريقة أعتقد أنها لم تُجرب في تعاملات الأكاديميين الآخرين مع هذه الإشكاليات”. ومن جانبه، أعرب جونسون عن قلقه من أن كثيرين من علماء الاجتماع يندفعون نحو استخدام المقاربات الحاسوبية، دون الحصول على تدريب مناسب.
لا يُعَد جونسون العالِم الوحيد الذي يتشكك في أهمية ما يمكن لنظريات علوم الاجتماع أن تقدمه لمشروعاته. وعلى سبيل المثال، يقول جيانجياكومو برافو، الذي تلقى تدريبًا كخبير في الاقتصاد الاجتماعي، والمتخصصٌ في علم الاجتماع الحاسوبي بجامعة لينيوس في فيكوا بالسويد، إن العديد من نظريات علوم الاجتماع على درجة شديدة من الغموض، مما يجعل من الصعب اختبار صحة هذه النظريات باستخدام البيانات الضخمة. فعلى سبيل المثال.. تُعرَّف فكرة رأس المال الاجتماعي أحيانًا بأنها قِيَم وتفاهُمات مشترَكة في المجتمع، يسمحان للأفراد بالعمل معًا، لكن جيانجياكومو يضيف في هذا السياق قائلًا: “الصيغة الأصلية لمفهوم رأس المال الاجتماعي هذا غامضة للغاية إلى حد يمنع اختبار صحة هذا المفهوم”. ويتساءل جيانجياكومو: “كيف يمكنني قياس صحة شيء كهذا؟”.
من ناحية أخرى، نجد أنّ بعض النظريات أكثر وضوحًا. فحسبما تقول أندريجيتو، التي تدرس الأعراف الاجتماعية (أي القواعد المشتركة التي تحدد السلوك المقبول وغير المقبول في المجتمع)، أمضى الباحثون عقدًا من الزمن في جمْع تعاريف ونظريات واضحة حول هذه الأعراف. وتقترح النظريات الاجتماعية –على سبيل المثال– أنه عندما تتغيّر الأعراف الاجتماعية، فإن ذلك من شأنه أن يؤدي إلى تغيّرات في طريقة استجابة شخصٍ ما لموقف بعينه. ويُعتقد أيضًا أن الأعراف الاجتماعية لا تتغير إلا ببطء، وعبر مسار من التفاعلات الاجتماعية المكثفة. وهذه الملاحظات القابلة لاختبارها تسمح لأندريجيتو بالدمج ما بين العمل الحاسوبي، ونظريات العلوم الاجتماعية؛ فهي تستخدم تجارب تُجرى عبر الإنترنت، لاختبار ما إذا كان إدخال تغييرات على الأعراف الاجتماعية في نظم مُحاكاة سوف يؤثر على السلوك، أم لن يؤثر.
ليست أندريجيتو وحدها التي ترغب في استخدام شبكات العلوم الاجتماعية لإحداث تغيير في العالَم. وكمثال، يقول واتس إنه -في كثير من الأحيان- يسعى هو وغيره من الباحثين الأكاديميين لنشر أبحاثهم، بدلاً من إيجاد حلول لمشكلات العالم الحقيقية. ويعقب على ذلك قائلًا: “كنت أشعر كما لو أن عملي اكتمل بمجرد نشر ورقتي البحثية”، ويضيف قائلًا: “كانت مهمتي هي طرح هذه الأفكار، وكانت مهمة شخص آخر أن يتدخل ويعرف كيف يترجم هذه الأفكار إلى تدخلات بناءة في العالم الحقيقي”.
ولتحقيق تغيّر كهذا، ينبغي على الباحثين من كلا المعسكرين الحفاظ على الزخم الذي يدفع باتجاه تعاونهما، حسبما يرى واتس. ويشعر البعض بأن هذا يحدث بالفعل، إذ تقول فاجنر: “إنّ علم الاجتماع التقليدي، وعلم الاجتماع الحاسوبي يقتربان بالفعل من بعضهما البعض بمرور الوقت”، وتضيف قائلة: “في غضون 20 عامًا، لن تكون هناك أي فجوة بينهما”.
هايدي ليدفورد
Nature