متطلبات تطوير السياسة الجنائية في لبنان: تخفيض مدة السنة السجنية أم تطبيق البرامج الإصلاحية؟
ورقة بحثية.

متطلبات تطوير السياسة الجنائية في لبنان: تخفيض مدة السنة السجنية أم تطبيق البرامج الإصلاحية؟ورقة بحثية.

الدكتورة مريم عبد الله اسحق- عضو اللجنة القانونية في الجمعية الأرثوذكسية لرعاية المساجين في لبنان.
تمهيد:
بتاريخ 30 آذار من العام 2012، صدر القانون رقم 216 ، المتعلق بتحديد مدة السنة السجنية في لبنان بتسعة أشهر، حيث تضمنت المادة الأولى من هذا القانون إلغاء نص المادة 112 من قانون العقوبات والنص على الآتي:” خلافاً لأي نص آخر، وما خلا عقوبة الحبس المستبدل من الغرامة، يحتسب يوم العقوبة أو التدبير الاحترازي 24 ساعة والشهر 30 يوماً ما لم تكن العقوبة المقضي بها دون السنة حبساً، ففي هذه الحالة يحسب الشهر 20 يوماً. أما إذا كانت العقوبة المقضي بها هي الحبس سنة فأكثر فإن هذه السنة تحتسب تسعة أشهر من يوم إلى مثله وفقاً للتقويم الغربي. ولكن، يتضمن نص المادة الأولى من هذا القانون ما يفيد بأن المحكومين بعقوبات غير محددة المدة ومعتادو الإجرام والمكررون المعرفون بموجب المادة 258 وما بعدها من قانون العقوبات من هذا القانون.
إذا ما راجعنا اقتراح هذا القانون، سنجد أن مشروع هذا القانون أصلاً يندرج ضمن الخطوات المنهجية المتعلقة بتطوير السياسة العقابية في لبنان، ويرمي إلى تشجيع المحكومين على عدم تكرار الأفعال الجرمية أو اعتياد الإجرام، وبالتالي فإن اشتراط عدم تكرار الجريمة أو اعتياد الإجرام هو حافز للاستفادة من التخفيض المتعلق بمدة السنة السجنية. وفي العام 2022 تم تقديم اقتراح قانون أخر من عدد من النواب اللبنانيين لتخفيض مدة السنة السجنية لستة أشهر بدل تسعة أشهر.
ولكن، هل بالفعل يشكل تخفيض مدة السنة السجنية في لبنان حافزاً لمنع تكرار الجرائم أو اعتياد الإجرام وجزءً من السياسة الجنائية المتعلقة بإصلاح المجرمين ضمن المؤسسات العقابية؟ أم أنه مجرد حل بديل لمسألة الاكتظاظ ضمن السجون اللبنانية؟
لا شك في أن إقرار مثل هذا القانون من شأنه أن يساهم ولو بشكل بسيط في تخفيف الاكتظاظ ضمن السجون اللبنانية، فعملية تخفيض مدة السنة السجنية من 12 شهراً إلى 9 أشهر من شأنها أن تساهم في إخلاء سبيل العديد من المساجين بوقت أقصر من الوقت المحدد للعقوبة في قانون العقوبات، ولكن هل تم بالفعل ضمان عدم قيامهم بارتكاب جرائم جديدة؟ هذا الأمر من وجهة نظرنا مُستبعد، ولا يمكن القول أن مجرد تخفيض السنة السجنية إلى 9 أشهر من شأنه أن يشكل حافزاً لمنع تكرار الجريمة، فتخفيض السنة السجنية لا يعالج السبب الأساسي الذي لأجله قام المسجون بارتكاب جريمته. هنا يجب التأكيد على تطبيق الوظيفة الإصلاحية للمؤسسات العقابية في لبنان، فإصلاح المجرمين هي مسألة ضرورة عملية تفرضها الحاجة الملحة للحد من ظاهرة الجريمة بشكل عام، والحفاظ على الحقوق الإنسانية في لبنان بموجب المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي يعتبر لبنان طرفاً فيها.
توضّح هذه الورقة البحثية مجموعة أساسية من المفاهيم وفق المنهجية الحديثة لعلم الإجرام والعقاب في ضوء نظرية تفريد العقوبة، وفي ضوء متطلبات تطوير السياسة الجنائية في لبنان.
مفهوم نظرية تفريد العقاب:
تعتبر هذه النظرية من أهم وأبرز النظريات الحديثة في السياسة الجنائية، وهي نتاج للتطور العملي والنفسي في ميدان القانون الجزائي. ويتم تطبيق هذه النظرية من قبل القضاة الجزائيين بهدف انتقاء العقوبة الملائمة لشخصية المجرم والظروف الخاصة بالفعل الجرمي. وبالتالي، فإن القاضي الجزائي الذي يتولى الحكم على المجرم، سيكون على اطلاع بكافة النواحي النفسية الخاصة بالمجرم وبالظروف والأسباب التي أدت لاقترافه ذلك الفعل. عندها سيحقق القاضي العدالة الجزائية في العقوبة الصادرة بحق المجرم، وستتمكن السلطات الجزائية من تحديد بنود عملية أكثر دقة تساعد على إعادة تأهيل وإصلاح هذا المجرم طالما أنها تعرّفت على الأسباب الأساسية التي أدت لاقترافه الجريمة، وكمبدأ أساسي، لا يمكن علاج أي شيء ما لم يتم التعرف على أسبابه.
مفهوم إصلاح المجرمين وإعادة تأهيلهم:
مفهوم إصلاح المجرمين ضمن السياسة الجنائية الحديثة يقوم على مجموعة عناصر يجري تطبيقها من قبل السلطات الجزائية، والهدف هو تحقيق مجموعة نتائج أهمها إعادة المجرم إلى المجتمع الخاص به كشخص صالح ومهيأ للاندماج المجتمعي. الكثير من الدراسات المتعلقة بوظيفة المؤسسات العقابية ومنهجيات التعامل مع السجناء ضمن السجون ومراكز التوقيف ركّزت على آليات العمل القانونية والفنية المتعلقة بتأهيل السجناء والتعرّف إلى الأسباب الأساسية التي ساهمت في جنوحهم نحو الجريمة، ونحن نؤكد على أهمية هذا التوجه المرتبط بالحد من ظاهرة الإجرام عبر التعرّف إلى الأسباب النفسية والاجتماعية التي جعلت المجرم يقدم على ارتكاب جريمته.
قد يكون البحث مدى تطبيق المنهجيات الإصلاحية للعقوبات ضمن المؤسسات العقابية في لبنان مهماً جداً، ولا بد من وضع خطط عملية لتنفيذ هذه المنهجيات تتلاءم مع الواقع السياسي والاقتصادي والمجتمعي. ولكن هذا الأمر لا يقل أهمية عن تحليل الإشكاليات التي تعيق تطبيق مثل هذا الأمر في لبنان. المشرع اللبناني حصر تطبيق التدابير الإصلاحية بالنسبة للأحداث الذين يقدمون على اقتراف الجرائم وفقاً لمضمون القانون رقم 422 الصادر في العام 2002، حيث يتضمن تطبيق التدابير الإصلاحية بالنسبة للأحداث وضعهم ضمن معاهد إصلاح لمدة 6 أشهر كحد أدنى. ويتم ضمن هذه الفترة العمل على تدريب الحدث وتدرسيه والإشراف على الشؤون النفسية والأخلاقية والصحية الخاصة به بما يتوافق مع سياسة المعهد الإصلاحية.
مسألة تنفيذ برامج إصلاحية بالنسبة للسجناء في لبنان هي مسألة نظرية وليست عملية بالمجمل، ولا يمكن القول أن المؤسسات العقابية في لبنان تطبق برامج إصلاحية خاصة بالسجناء الموجودين لديها، ويقتصر الأمر على الأحداث الجانحين، بينما من الضروري تطبيق مثل هذه البرامج على كافة أنواع السجناء بما يكفل إعادة تأهيلهم والحفاظ على حقوقهم الأساسية خلال فترة سجنهم. إنها مسألة بغاية الأهمية أن يتم تأهيل المجرمين وإعادة دمجهم بالمجتمع من جديد، وعندها تصبح مسألة المدة التي يقضي فيها هؤلاء السجناء عقوبة السجن مسألة ثانوية. قد يبقى السجين في الزنزانة مدة 10 أو 20 سنة ولكن بدون جدوى، بدون أن يتم إعادة تأهيله أو إصلاحه لكي لا يقدم على ارتكاب أفعال جرمية مشابهة لفعله الأساسي أو أفعال جرمية أخرى. لذلك المسألة مرتبطة بالبرامج الإصلاحية وليس بالمدة الزمنية.
ليست فقط الإشكالية بعدم وجود برامج إصلاحية واضحة لإعادة تأهيل السجناء في لبنان، بل أن البنية التحتية والبنية الإدارية الخاصة بالسجون اللبنانية هي بحد ذاتها إشكالية. وهذه الأخيرة تتمثل بالنقاط التالية:

النقطة الأولى: لمن صلاحية الإشراف على السجون في لبنان؟
وفقاً للموسوم الاشتراعي رقم 14310 لعام 1949، تخضع السجون لإدارة وزارة الداخلية والبلديات، في حين أن الواجب تطبيقه هو وضع السجون تحت الإدارة المباشرة لوزارة العدل . والسبب في وجوبية خضوع السجون لإشراف وزارة العدل هو الضرورات العملية المتعلقة بآلية ومنهجية عمل وزارة الداخلية والبلديات ووزارة العدل، فهذه الأخيرة قادرة على ممارسة الإشراف الإداري على السجون بشكل أكثر تخصص ومنهجية فاعلة تلبي متطلبات الحفاظ على حقوق السجناء من جهة وتطبيق البرامج الإصلاحية من جهة أخرى، خاصة وأن مثل هذه البرامج تحتاج لمتخصصين قانونيين وخبراء للتعامل مع السجناء وحالاتهم الموضوعية.
ينص المرسوم الاشتراعي رقم 151 الصادر بتاريخ 16 أيلول من العام 1983، على أن مديرية السجون التابعة لوزارة العدل هي من يتولى شؤون السجناء والإشراف على إعادة تأهيلهم، وهذه الإدارة تضم مختصين وخبراء قانونيين واجتماعيين وقضاة. مما يجعلها أكثر قدرة على التعامل مع السجناء وتطبيق عدد كبير من البرامج الإصلاحية ضمن المؤسسات العقابية. ولكن للأسف هذا المرسوم لم يدخل حيز النفاذ بعد. وبالتالي، قبل اقتراح مسألة تخفيض السنة السجنية والعمل على إقرارها، يجب العمل على دفع عجلة تنفيذ المراسيم الاشتراعية المتعلقة بتنفيذ منهجيات الإصلاح وإعادة التأهيل الخاص بالسجناءـ، فضمان تحقيق الردع العام و الخاص وضمان مسألة عدم التكرار متعلقة بإصلاح السجين وليس تخفيف مدة بقائه بالسجن. هذه العملية هي الأساس في التثبت من قابلية المسجون لعدم تكرار الجرائم، وليس مجرد وضعه مدة زمنية معينة في السجن بغض النظر عن طولها أو قصرها.
النقطة الثانية: الوضع البنيوي الخاص بالسجون:
تستوعب السجون في لبنان ما يقارب ثلاثة آلاف وخمسمائة سجين. ولكن كم سجين لدينا ضمن السجون اللبنانية حالياً؟ حتى العام 2013 فقط كان يقبع في السجون اللبنانية ما يقارب خمسة آلاف وثمانمائة سجين، ما يعني أن السجون مكتظة بشكل كبير جداً. وحالياً العدد أكبر مع وجود عدد كبير من السجناء من جنسيات أجنبية، خاصة من الرعايا السوريين المتواجدين في لبنان منذ العام 2011 نتيجة النزاع المسلح في سوريا. والسؤال المطروح هنا: هل يمكن القول أن تطبيق برامج إصلاحية على السجناء ممكن في ظل هذه الظروف؟ الجواب بالطبع كلا، وسنبدو ميتافيزيقيين إذا قلنا أن الجواب نعم. لبنان يعاني من أزمة كبيرة على كافة الصعد، وقد تأثرت المؤسسات العقابية بهذه الأزمات، ولذلك لا بد من وضع خطة عمل تولي اهتماماً كبيراً لمسألة الاكتظاظ في السجون، ولكن يكون الحل أبداً بتخفيض مدة السنة السجنية وحسب، بل يجب أن يكون هذا التخفيض هو واحد من الحلول.
إذا راجعنا التقرير الوطني اللبناني المقدم وفقاً لبنود الاستعراض الدوري الشامل لمجلس حقوق الإنسان، سنجد ما يتضمن بأن لبنان قد أنشأ لجنة وزارية للوصول إلى حلول متعلقة بواقع المؤسسات العقابية، وتم البدء بتنفيذ خطة خمسية منذ العام 2008 حتى العام 2010 لنقل الإشراف الإداري على السجون من وزارة الداخلية والبلديات إلى وزارة العدل، ولحد الآن لا يوجد تنفيذ لهذه الخطة، فكيف سيتم تنفيذها الآن في ظل الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها لبنان؟

خاتمة:
إن مسألة تخفيض مدة السنة السجنية من 9 أشهر إلى 6 أشهر هي مسألة مهمة، وتشكّل حلاً مؤقتاً لإشكالية الاكتظاظ الذي تشهده السجون اللبنانية، لا سيما في ظل الضغط الهائل على هذه السجون نتيجة وجود عدد كبير من السجناء من الرعايا السوريين الذي يشكلون نسبة كبيرة من العدد الكلي للسجناء في لبنان. ولكن لا يمكن أن يكون هذا الأمر هو حل بديل، بل يجب أن يترافق مع تطبيق السياسية الإصلاحية وإعادة تأهيل السجناء في المؤسسات العقابية ضمن لبنان، فمسألة ضمان عدم تكرار الجرائم أو اعتيادها مرتبطة بالقضاء على الأسباب التي دفعت المجرم لاقتراف جريمته، وهذا يحتاج لمعالجة دقيقة وموضوعية تساهم في الوفاء بمتطلبات السياسة الجنائية الوطنية اللبنانية من جهة والوفاء بالتزامات لبنان بموجب القانون الدولي من جهة أخرى.

Spread the love

adel karroum

اترك تعليقاً