عودة: نشدد على أهمية دور جيشنا وضرورة الالتفاف حوله وعدم العبث بكل ما يتعلق به لكونه المدماك الأخير الصامد
ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران الياس عودة خدمة القداس الإلهي في كاتدرائية القديس جاورجيوس.
بعد قراءة الإنجيل ألقى عظة قال فيها: “سمعنا في إنجيل اليوم عن شاب غني جاء مجربا الرب يسوع، قائلا له: «أيها المعلم الصالح ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية». هذه الحادثة نقرأها أيضا في إنجيل متى (19: 16-22) وإنجيل مرقس (10: 17-27). الإنجيلي لوقا يتحدث عن رئيس أتى يجرب الرب، فيما يدعوه متى شابا، ومرقس يخبرنا بأنه ركض وجثا أمام الرب يسوع. كل هذا يدلنا على أن الشاب، الذي نعرف لاحقا أنه غني، كان رئيسا في محيطه، أي متقدما دينيا على الباقين. قد يكون الشاب الغني ينتظر جوابا بهدف الخلاص، لكن المشكلة كانت في سبب طرحه السؤال. يقول النص الإنجيلي أن الشاب أتى إلى الرب «مجربا له»، منتظرا منه أن يقول شيئا مخالفا لتعاليم اليهود وللناموس، لكي يشتكي عليه بشهادة السامعين. لكن الرب «العارف مكنونات القلوب» عرف أفكار الشاب وأجابه: «لماذا تدعوني صالحا وما صالح إلا واحد وهو الله؟» لأن اليهود لا يطلقون صفة «صالح» إلا على الله وحده، وكأنه يقول له: إما أنك تعترف بأني الله، أو إنك لا تعرف الناموس كفاية. لكن الرب أكد أن الشاب يعرف الناموس عندما قال له: «إنك تعرف الوصايا: لا تزن، لا تسرق، لا تشهد بالزور، أكرم أباك وأمك». كان هدف الشاب أن يسمع من المسيح إلغاء للوصايا، لكن الرب ثبتها، وذكره بها معددا القسم الثاني منها”.
أضاف: “كان اليهود يعتبرون أن اللوح الأول من لوحي العهد يحتوي على الوصايا التي تتحدث عن علاقة الإنسان بالله، أما اللوح الثاني فيحمل الوصايا التي تحدد علاقة الإنسان بالآخر. لافت أن الرب ذكر في جوابه الوصايا الموجودة في اللوح الثاني وأكد أن ميراث الحياة الأبدية يكون عبر تطبيق الوصايا التي تتعلق بالآخر. طبعا، لا يقصد الرب أن علاقتنا بالله ليست مهمة، لكن علاقتنا بالآخر هي التي تحدد علاقتنا بالله. لهذا زاد الرب على هذه الوصايا وصية تجمعها كلها معا، أي وصية المحبة. هذا ما علمنا إياه أيضا الرسول يوحنا: «إن قال أحد إني أحب الله وأبغض أخاه فهو كاذب، لأن من لا يحب أخاه الذي أبصره كيف يقدر أن يحب الله الذي لم يبصره، ولنا هذه الوصية منه أن من يحب الله يحب أخاه أيضا» (1يو 4: 20-21). أجاب الشاب سريعا وقال: «كل هذا قد حفظته منذ صبائي»، لكن الرب عاد فقال له: «واحدة تعوزك بعد: بع كل شيء لك ووزعه على المساكين فيكون لك كنز في السماء، وتعال اتبعني»، وكأنه يقول له إن حفظ الوصايا منذ الحداثة لا يكفي، لذلك يلزم تطبيقها والعيش بموجبها. لقد أتى الشاب طالبا سبيل الحياة الأبدية، فكان الجواب أن الحياة الأبدية تبدأ بفعل محبة القريب”.
وتابع: “لم يكتف الرب بجواب نظري بل أعطى حلا عمليا طالبا من الشاب أن يبيع كل ما يملك ويوزعه ليكون له كنز في السماء، ثم يتبعه. عندما نسمع عبارة: «كنز في السماء» نتذكر قول الرب: «لا تكنزوا لكم كنوزا على الأرض حيث يفسد السوس والصدأ، وحيث ينقب السارقون ويسرقون. بل اكنزوا لكم كنوزا في السماء، حيث لا يفسد سوس ولا صدأ، وحيث لا ينقب سارقون ولا يسرقون، لأنه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضا» (مت 6: 19-21). هنا، أوضح الرب كيف يكنز الإنسان في السماء ويربح الحياة الأبدية. لم يأت جواب الرب بحسب رغبة الشاب الذي «حزن لأنه كان غنيا جدا». حينئذ، قال الرب يسوع للحاضرين: «ما أعسر (أصعب) على ذوي الأموال أن يدخلوا ملكوت الله».
وقال: “المسيحية لا تجرم الغنى، وهناك عدة شخصيات غنية بارة في الكتاب المقدس كإبراهيم وأيوب ويوسف الرامي… المشكلة تكمن في محبة المال، كما يقول الرسول بولس: «محبة المال أصل لكل الشرور، الذي إذا ابتغاه قوم ضلوا عن الإيمان وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة» (1تي 6: 10). يشدد آباء الكنيسة على أن كثرة الأموال تنسي الإنسان تدخل الله في حياته، إذ يظن أنها تستطيع تحقيق كل حاجاته، مثلما قرأنا الأسبوع الماضي في مثل الغني الجاهل (لو 12: 13-21). يقول القديس باسيليوس الكبير: «لم يطلب أن نبيع ما لنا لأنها أمور شريرة بطبعها، وإلا لما كانت من صنع الله. لم يأمرنا بأن نلقيها عنا كأمور رديئة، بل أن نوزعها. لا يدان أحد لأنه يملك شيئا، إنما لأنه يفسد ما يملكه. بهذا، فإننا بحسب وصية الله نلقي عنا ما لنا لغفران خطايانا والتمتع بالملكوت». أما القديس يوحنا الذهبي الفم فيقول: «حتى إن كنت غنيا، فالطبيب قادر أن يشفيك. إنه لن ينزع الغنى، إنما العبودية للغنى ومحبة الطمع في الربح». لذلك نصلي من أجل كل من يظنون أن غناهم جاء بفضلهم، خصوصا المسؤولين الذين ينسون أن غناهم سمح به الرب لكي يساعدوا من خلاله أبناء الله المحتاجين. ونأسف أن الشعب يظن أن خلاصه يأتي من المال ومن طريق الأحزاب والجماعات والزعماء الذين مهما أخطأوا يسامحهم أتباعهم لأنهم أولياء نعمتهم”.
أضاف: “مرة أخرى يحل عيد الإستقلال فيما البلد بلا رأس، وهو يتخبط في مشاكل لم يجد المعنيون لها حلولا منذ سنوات، أضيف عليها شبح الحرب التي لا طاقة للبنان على تحملها في ظل تداعي الدولة وانهيار الإقتصاد، ولا يريدها معظم اللبنانيين الذين عانوا من ويلات الحروب ودفعوا أثمانا باهظة من حياتهم وممتلكاتهم ومستقبل وطنهم، ولا يريدون أية مقامرة بمصيرهم بل يتطلعون إلى اليوم الذي ينتخب فيه رئيس للبلاد تبدأ معه مسيرة نهوض البلد من كبوته التي طالت، وتبدأ عملية إصلاح شامل تقضي على الفساد والتطاول على السيادة والدستور، واستباحة الحدود، وكبح الحريات واستغلال القضاء، وتحصر قرارات الدولة في يد الدولة، وتعيد للمواطن كرامته وللدولة هيبتها وللقانون سيادته. عندها فقط يعود للإستقلال معناه ويشعر اللبنانيون أنهم يمسكون مصيرهم بيدهم لأن دولتهم، بكافة عناصرها، هي الحاكم الوحيد، والناطق الوحيد باسمهم، والراسم الوحيد للسياسة الداخلية والخارجية”.
وتابع: “في هذه المناسبة لا بد من التشديد على أهمية دور جيشنا، وضرورة الالتفاف حوله، وعدم العبث بكل ما يتعلق به كونه المدماك الأخير الصامد. كما لا بد من التشديد على وعي المواطنين وواجبهم في محاسبة ممثليهم كي يقوموا بالدور الذي انتخبوا من أجل القيام به”.
وختم: “دعوتنا اليوم هي إلى التحرر من عبودية المال وسلطته، واستعمال ما منحنا إياه له لمساعدة إخوتنا البشر، علنا نرث الحياة الأبدية ونستأهل أن يتجسد المسيح الكلمة من أجل خلاصنا”.