مواجهة ماكرون مع الإسلاميين من الضواحي حتى العواصم المغاربية
استراتيجية الرئيس إيمانويل ماكرون ضد جماعات الإسلام السياسي، تبدو للوهلة الأولى ذات بعد داخلي إنتخابي، لكن قراءة في أبعادها تكشف إمتداداتها خارج فرنسا. ويبدو أن المنطقة المغاربية ستكون مسرحها الأساسي.
الاستراتيجية الجديدة التي أعلن عنها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ضد ما وصفه بـ”الانعزالية الإسلامية” التي تسعى إلى إقامة “نظام مواز” ينكر قواعد النظام الجمهوري ونمط الحياة الليبرالية في المجتمع، تبدو هذه الاستراتيجية للوهلة الأولى أن سياق إعلانها محلي وانتخابي في أفق انتخابات 2022، كونها تأتي استجابة للتحديات التي تواجهها الدولة إزاء اندماج فئات من المهاجرين، بل حتى فئات من المواطنين الفرنسيين الذين يغلّبون انتماءاتهم الدينية أو الطائفية على حساب المواطنة.
ففي محاولة لسحب ورقة التطرف وعدم الاندماج من اليمين المتطرف الذي طالما وظّفها لاستمالة قطاعات واسعة من الناخبين سواء على المستوى المحلي أو التشريعي والرئاسي، وضع الرئيس ماكرون في صلب استراتيجيته لمواجهة جماعات الإسلام السياسي، التركيز على تجفيف مصادر انتشار التطرف على مستوى مؤسسات التعليم والمراكز الإسلامية والجمعيات وتكوين الأئمة والتمويل، بالإضافة إلى التدابير الأمنية المباشرة ومن أهمها اعلان السلطات الفرنسية اعتزامها ترحيل مئات من العناصر الإسلامية المتشددة إلى بلدانهم الأصلية، وضمنهم مصنفون في لائحة “اس” (S) من قبل السلطات الفرنسية كخطر على الأمن القومي.
ويبدو أن جريمة ذبح المدرس الفرنسي صامويل باتي، على يد متشدد إسلامي، ساهمت في تسريع وتيرة حملة السلطات الفرنسية ضد الإسلاميين المتشددين، وقد تحدثت تقارير عن الاتجاه إلى ترحيل المئات منهم وإغلاق العشرات من المقرات والجمعيات التي تشكل فضاء لنشاط هؤلاء.
ويقارن محللون في فرنسا الخطوة التي يقدم عليها الرئيس ماكرون حالياً، مع ما قام به الرئيس الاشتراكي الراحل فرانسوا ميتران قبل ثلاثين عاماً، في نهجه الصارم ضد جماعات الإسلام السياسي وعلى رأسها حزب “جبهة الإنقاذ الإسلامي الجزائرية”، وكان ذلك في بدايات ما يعرف بالعشرية السوداء في الجزائر، بخلاف بلدان غربية أخرى مثل بريطانيا والولايات المتحدة وألمانيا، التي فتحت المجال لاستقبال آلاف اللاجئين الإسلاميين الفارين من ملاحقة السلطات في الجزائر وتونس.
وهنالك قطاعات واسعة من الفرنسيين وحتى من المثقفين المنحدرين من بلدان مغاربية، على غرار الكاتب الجزائري بوعلام صنصار، من يعتبرون أن خطوة الرئيس ماكرون ربما جاءت متأخرة. ففي مقال له نشر الاثنين 19 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي بصحيفة الاكسبريس الفرنسية، حذر الكاتب الجزائري المقيم بين فرنسا وألمانيا، من “عدم إدراك فرنسا لحد الآن الحقيقة التي تواجهها. فبينما تعتقد بأنها تعرضت إلى ضربة من الإرهابيين، سواء من المصنفين في لائحة “إس” (S) الأمنية أم لا، فإنها في حقيقة الأمر واقعة تحت وطأة حرب عصابات، تأخذ شيئاً فشيئاً مداها لتصل أبعاد حرب شاملة”.
معركة ماكرون من أحياء الضواحي حتى عواصم المغرب
ومن خلال قراءة في أبعاد استراتيجية الرئيس ماكرون، يمكن رصد ملامح خطة مواجهة شاملة ضد الإسلاميين المتشددين تبدأ من الأحياء الهامشية في ضواحي العاصمة باريس وكبريات الحواضر الفرنسية، والتي باتت تعرف بأنها مجال خصب لانتشار التطرف في أوساط الشباب ولاسيما المنحدرين من بلدان مغاربية، وتمتد خارج حدود فرنسا، ويبدو أن البلدان المغاربية ستكون ساحتها الرئيسية.
إثر الاعتداء الإرهابي الذي نفذه متشدد شيشاني ضد المدرس صامويل باتي، كتب النائب راشد الخياري في مجلس نواب الشعب التونسي، تدوينة جاء فيها قوله: “الإساءة لرسول الله صلى الله عليه وسلم هي أعظم الجرائم وعلى من يقدم عليها تحمل تبعاتها ونتائجها دولة كانت أو جماعة أو فرد”. لم تمض ساعات قليلة حتى تحركت السفارة الفرنسية في تونس للاحتجاج، وسيعقبه على الفور رد فعل من السلطات التونسية التي فتحت تحقيقاً في الموضوع.
وهذه الواقعة بقدر ما تؤشر إلى رد فعل سريع للسلطات التونسية، فإنها تكشف البعد الخارجي في استراتيجية الرئيس ماكرون الهجومية ضد الإسلام الراديكالي. فبخلاف خطاب ألقاه في أول فبراير/ شباط 2018 في البرلمان التونسي، حيث قال “إن تونس أثبتت أن الإسلام يتعايش مع الديمقراطية”، أشار الرئيس ماكرون في خطابه في أول أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، إلى تونس بشكل مباشر في معرض حديثه عن “أزمة الإسلام في العالم”. ومثلما واجه خطاب الرئيس ماكرون انتقادات من مسلمي فرنسا وبلدان مسلمة، أثارت تصريحاته انتقادات من لدن عدد من السياسيين والمفكرين ورجال الدين بتونس، لكنهم وبعد واقعة النائب راشد الخياري وجهوا سهام نقدهم لتصريحاته لما تضمنته من تبرير لاعتداء إرهابي.
أما بالنسبة للرئيس ماكرون فإن وضعه لجماعات الإسلام السياسي في شمال أفريقيا، في سلّم الأولويات ضمن استراتيجيته الجديدة، إنما تُحركه دوافع تتجاوز الخلفية التقليدية لفرنسا العلمانية في مواجهة أطروحات الإسلام السياسي، رغم أنها تظل قائمة ومؤثرة، بحكم حساسيات الماضي الاستعماري لفرنسا في المنطقة ودورها التاريخي بعد استقلال هذه الدول في دعم أنظمة حكم استبدادية ونخب فرنكوفونية، إضافة إلى وجود جاليات مغاربية كبيرة في فرنسا، ويشكل وجودها تأثيرات معقدة على أوضاع فرنسا الداخلية وفي علاقاتها مع بلدان المغرب.
وبقدر ما تشكل الاعتبارات الداخلية دوافع لاستراتيجية الرئيس الفرنسي الجديدة، فهي ليست بمعزل عن صراع النفوذ الاقتصادي والاستراتيجي مع قوى إقليمية أخرى ضمنها تركيا والصين، وهو صراع يكتسي حدة كبيرة في المنطقة المغاربية.
صراع نفوذ محتدم
لقد فقدت فرنسا في العقدين الأخيرين الكثير من نفوذها، وتبدو خسائرها أكثر في ليبيا وتونس، من الناحيتين السياسية والاقتصادية. أما في الجزائر، فإن لغة الأرقام تكشف حجم الهوة التي باتت تفصل مبادلات الصين مع فرنسا. وقد اعترف وزير الخارجية لودريان، خلال زيارته للجزائر وهي الثالثة من نوعها خلال عام واحد، بأن فرنسا تعمل من أجل استعادة مكانتها كأول شريك تجاري للجزائر، وهو الموقع الذي باتت الصين تحتله منذ خمس سنوات، بينما تتصدر صادرات السلاح الروسية في الجزائر. وهذا ملف يظهر حوله التقاء فرنسي أمريكي في المنطقة المغاربية.
والمتتبع لسياق إعلان استراتيجية الرئيس ماكرون ضد الإسلام السياسي، يرصد ما تحمله من عناصر صراع مفتوح مع “تركيا أردوغان”، بدءا من ليبيا ثم شرق المتوسط ولبنان ووصولاً إلى القوقاز.
ويكتسي الصراع الآن بين فرنسا وتركيا أبعاد متعددة، استراتيجية وعسكرية في البحر الأبيض المتوسط واقتصادية في العمق الأفريقي وأيديولوجية بين “فرنسا العلمانية” و”تركيا العثمانية”. وتبدو بلدان المغرب حقل صراع مفتوح على النفوذ بين القوتين التقليدية الفرنسية والتركية الصاعدة. وتشكل أحزاب الإسلام السياسي المشاركة في الحكم بتونس والمغرب وليبيا، هدفاً واضحاً في مرمى فرنسا وفق استراتيجية ماكرون.
ففي ليبيا تكبدت فرنسا خسائر استراتيجية كبيرة بسبب التدخل التركي، ولذلك كان رد فعل باريس قوياً إلى جانب اليونان ضد تركيا في صراعها، وها هي الآن تناوش أردوغان في نزاع ناغورني كاراباخ.
إذ نتج عن التحالف بين حكومة الوفاق الوطني برئاسة فايز السراج والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، تداعيات عسكرية واستراتيجية دراماتيكية على النفوذ الفرنسي. وفي تونس لا تخفي فرنسا عدم ارتياحها لنفوذ “حزب النهضة الإسلامي” الذي يتزعمه رئيس البرلمان راشد الغنوشي حليف أردوغان، إضافة إلى انزعاج (فرنسي) من حضور “ائتلاف الكرامة” ذو التوجه الإسلامي الشعبوي الذي يرفع منذ ظهوره على الساحة السياسية التونسية شعارات موجهة ضد النفوذ الفرنسي في البلاد. ومن المتوقع أن تهيمن هذه القضايا على محادثات الغنوشي في زيارته المرتقبة إلى باريس بدعوة من رئيس البرلمان الفرنسي.
وفي المغرب، ورغم العلاقات الاستراتيجية العميقة بين المملكة وفرنسا، يعتقد مراقبون بأن باريس لا تنظر بعين الارتياح لنفوذ “حزب العدالة والتنمية” الإسلامي في الحكومة الائتلافية التي يتولى رئاستها أمين عام الحزب سعد الدين العثماني.
وكان لافتاً أن الرئيس ماكرون أوفد وزيريه في الداخلية والخارجية إلى عواصم المغرب، مباشرة بعد إعلان استراتيجيته الجديدة. وفي الجزائر التي يزورها للمرة الثالثة خلال عام واحد، أوضح ايف لودريون وزير الخارجية الفرنسي أن ملفي التطرف الإسلامي والجماعات الإرهابية والنفوذ الصيني هما في صلب محادثاته مع المسؤولين الجزائريين. وبدوره فإن زميله وزير الداخلية جيرالد دارمنين الذي يصل إلى الجزائر قادما إليها من المغرب، يبحث مع المسؤولين في البلدين ملف ترحيل الإسلاميين المتشددين وضبط المراكز الإسلامية بفرنسا، والتي تعتبر مسرحاً للتنافس والنفوذ بين المغرب والجزائر.
وبحسب تقرير لصحيفة لوفيغارو فإن حوالي 250 من الإسلاميين المتشددين ضمنهم عدد كبير من الجزائريين، مرشحون للموجة الأولى من الترحيل. وهم عناصر إما في السجون أو أحرار لكنهم مسجلون ضمن لوائح أمنية كأشخاص خطرين.
ماكرون في انتظار نتائج الانتخابات الأمريكية
ويرى مراقبون بأن معالم التحرك الفرنسي ضد جماعات الإسلام السياسي في البلدان المغاربية، ما تزال تحتاج إلى بعض المعطيات كي تتضح بشكل أكبر.
فبعد أسبوعين فقط، سيعرف ساكن قصر الإليزيه زميله ساكن البيت الأبيض الجديد أو القديم، ومن ثم سيتضح لديه بأن الطريق سيكون سالكاً لالتقاء فرنسي أمريكي نادر حول الاستراتيجية الملائمة إزاء المنطقة المغاربية، أو أنه سيضطر إلى إعادة ترتيب أوراقه، ودون أن يعني ذلك مراجعة استراتيجيته بل التركيز على تحالفات مع قوى إقليمية مثل الإمارات ومصر ودولية مثل روسيا أو قوى أوروبية، لتحقيقها (استراتيجيته) على أرض واقع يتسم بتعقيدات شديدة وتداخلات قوى متضاربة المصالح والحسابات.
ففي القاموس السياسي الأمريكي يوجد تصنيف للإسلاميين، بين “معتدلين” يقبلون بالاندماج في العملية السياسية، و”متشددين” يشكلون دائرة الجماعات الجهادية والإرهابية. وخلال العقود الأربعة الأخيرة تحولت السياسة الأمريكية في هذا الملف في ظل حكم الديمقراطيين والجمهوريين، بحوالي 180 درجة، من تحالف مع جهاديي أفغانستان ضد الاتحاد السوفياتي سابقاً، إلى تشكيل تحالف دولي لمواجهة “داعش” والقاعدة في الشرق الأوسط وأفغانستان. وفي غضون ذلك أبقت الإدارات الأمريكية المتعاقبة على جسور التعاون مع جماعات الإسلام السياسي، سواء منها المعارضة لحكومات بلدانها أو المشاركة في الحكم من الكويت إلى تركيا ومصر والأردن إلى بلدان المغرب.
أما ادارة الرئيس ترامب فقد وضعت مكافحة الجماعات المتشددة كهدف رئيسي ضمن استراتيجيتها في بلدان شمال أفريقيا، وهو ما تتضمنه الاتفاقيات العسكرية والأمنية بعيدة المدى (10 سنوات) التي وقعها البنتاغون مؤخراً مع “الحليفين التقليديين”: المغرب وتونس، بموازاة تعاون قائم بمستوى “شراكة استراتيجية” مع الجزائر ويشمل الأوضاع في ليبيا وبلدان جنوب الساحل والصحراء.
وفي حال إعادة انتخاب الرئيس ترامب، فستشكل سياسته أرضية التقاء مع الاستراتيجية التي أعلن عنها الرئيس ماكرون. لكن ما يزال مبكراً تحديد ملامح واضحة لالتقاء الفرنسيين والأمريكيين، حول التعامل مع أحزاب الإسلام السياسي التي تشكل جزءا من العملية السياسية في المغرب وتونس وليبيا، وكان وصولها للحكم عبر انتخابات حرة، اعترفت بها المؤسسات الأوروبية نفسها.
ويرى محللون بأن إعطاء الرئيس ترامب الضوء الأخضر لنشر رسائل وزير الخارجية السابقة هيلاري كلينتون عن دور إدارة الرئيس السابق باراك أوباما في “الربيع العربي”، يكون (ترامب) قد بعث بإشارة جديدة حول الدور الأمريكي في واحد من أكثر الملفات إثارة للجدل في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهو دور أحزاب الإسلام السياسي في الحكم، باعتبارها من أكثر القوى السياسية المستفيدة من التطورات التي حدثت في المنطقة.
والرئيس ترامب عندما يرمي بهذا الملف في أوّج حملة الانتخابات الرئاسية لا يحمّل فقد الإدارة الديمقراطية عبر هيلاري كلينتون مسؤولية الصراعات التي نتجت عن وصول الإسلاميين للحكم في بعض بلدان شمال أفريقيا والشرق الأوسط، إنما يلوّح بهذه الورقة إلى الاتجاه الذي يتوقع أن تسير وفقه سياسة إدارته في مرحلة ما بعد الانتخابات، أي أنه إذا فاز في الانتخابات ربما يمضي في تصفية تركة أوباما بالمنطقة، ولاسيما في البلدان المغاربية التي يشارك فيها الإسلاميون بدرجات متفاوتة في الحكم.
وتعتبر المنطقة المغاربية نقطة تباين تقليدي بين واشنطن وباريس، منذ حرب تحرير بلدان شمال أفريقيا من الاستعمار الفرنسي، لكن الخلافات بينهما ظلت تاريخياً خامدة وقلّما ظهرت على السطح، ومن أهم الأسباب أن المنطقة لا تحظى بنفس الأهمية الاستراتيجية في منظور القوتين الغربيتين الحليفتين. بيد أن الوضع قد يتغير في المستقبل المنظور، في ظل تنامي الاهتمام الأمريكي بالمنطقة ومسابقة فرنسا للزمن لإيقاف تراجع نفوذها فيها. كما يبدو أن زمن حساسيّة فرنسا إزاء الدور الأمريكي في مستعمراتها المغاربية السابقة التي ظلت تعتبرها لوقت طويل بمثابة “حديقتها الخلفية”، قد ولّى.
منصف السليمي