في اليوم الثاني.. لقاء بين البابا والسيستاني وصلاة مشتركة بين الأديان في أور وأوّل قدّاس في بغداد بالطقس الكلداني

في اليوم الثاني.. لقاء بين البابا والسيستاني وصلاة مشتركة بين الأديان في أور وأوّل قدّاس في بغداد بالطقس الكلداني

في اليوم الثاني على الزيارة التاريخية للبابا فرنسيس الى العراق، عُقد لقاء غير مسبوق، جمع الزعيم الروحي لـ1.3 مليار مسيحي في العالم، ‏والمرجعية الشيعية العليا آية الله العظمى علي السيستاني في النجف، في واحدة من أهمّ محطات زيارة الحبر الأعظم ‏التاريخية إلى البلاد. وكان اللقاء مغلقاً لمدة ساعة، وأتي بعد عامين من توقيع البابا فرنسيس وثيقة الأخوة الإنسانية مع إمام ‏الأزهر، إحدى أبرز المؤسسات التابعة للمسلمين السنة ومقرها مصر.

وبحسب موقع “سكاي نيوز”، فقد صدر بيان عن الفاتيكان حول الزيارة، يؤكد أن “البابا فرنسيس بحث مع السيستاني التعاون بين جميع الديانات والحوار من أجل خير العراق وخير المنطقة”.

ثم استكمل رأس الكنيسة الكاثوليكية، البابا فرنسيس، زيارته لدولة العراق، وتوّج اليوم الثاني من زيارته التاريخية بلقاء تاريخي جمعه بالمرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني، ومن ثم توجّه إلى مدينة أور التاريخية حيث عُقد اجتماع بين الأديان.

ودعا البابا فرنسيس إلى احترام حرية الضمير والحرية الدينية والاعتراف بها في كل مكان، قائلا: “العنف والارهاب لا يأتيان من الدين بل الارهاب يستغل الدين، والامر متروك لنا، فالجميع عانى في هذا البلد”.

وقال خلال خلال لقاء الأديان الذي عُقد في مدينة أور التاريخية الموقع الذي يُعتقد أنه مكان مولد النبي ابراهيم في جنوب العراق، “لن يتحقق السلام بدون مشاركة وقبول الجميع للجميع وبدون عدالة ومساواة ومساعدة لبعضنا البعض”.

كما أحيا البابا أوّل قدّاس له في البلاد بكاتدرائية مار يوسف في بغداد، بحضور مسؤولين ومصلين جلسوا بشكل متباعد التزاما بالقواعد الصحية الهادفة لاحتواء وباء كوفيد-19.

وللمرة الأولى، يحيي الحبر الأعظم قداسا بالطقس الشرقي الكلداني، وتتخلله صلوات وتراتيل باللغتين العربية والآرامية.

زيارة السيستاني

أشار مدير المكتب الصحافي للكرسي الرسولي، ماتيو بروني، في بيان، لمناسبة زيارة قداسة البابا فرنسيس العراق، ولقائه السيد علي السيستاني، حوالى 45 دقيقة، صباح اليوم في النجف، إلى “أهمية التعاون والصداقة بين الطوائف الدينية، فبالاحترام المتبادل والحوار، مصلحة للعراق والمنطقة والبشرية جمعاء”.

وقال: “كان اللقاء فرصة للبابا لتقديم الشكر لآية الله العظمى السيستاني، لأنه وقف مع الطائفة الشيعية، ضد العنف والصعوبات الكبيرة في السنوات الماضية دفاعا عن المستضعفين”.

واعتبر الكاتب البريطاني، جون فيليبس، الذي يرافق البابا في زيارته، في اتصال مع “الوكالة الوطنية للاعلام”، أنها “المرة الأولى التي يخصّص فيها الإعلام العالمي مساحات واسعة لزيارة أحد البابوات”، لافتا إلى أن “هذه الزيارة ستنعكس تضامنا واهتماما تجاه العراق”.

وقال: “إنها الزيارة الأولى للبابا فرنسيس للعراق منذ توليه الباباوية، على الرغم من استمرار تبعات تفشي وباء كورونا والتصعيد الأمني في العراق، بعد سلسلة من الهجمات الصاروخية استهدفت قاعدة عين الأسد العسكرية التي تستضيف القوات الأميركية. الزيارة غير مسبوقة وهي رسالة تضامن مع المسيحيين والإيزيديين وكل أطياف الشعب العراقي، والأهم أنها أول قمة روحية مع مرجع شيعي بهذا المستوى وهو السيد علي السيستاني”.

ونقلت وكالة “أنسا” الإيطالية بيان مكتب السيستاني عن لقائه البابا، وفيه: “التقى سماحة السيد السيستاني، صباح اليوم، بالحبر الأعظم بابا الكنيسة الكاثوليكية ورئيس دولة الفاتيكان. وكان الحديث خلال اللقاء عن التحديات الكبيرة التي تواجهها الإنسانية في هذا العصر ودور الإيمان بالله تعالى وبرسالاته والتزام القيم الأخلاقية السامية في التغلب عليها. وتحدث سماحة السيد عما يعانيه الكثيرون في مختلف البلدان من الظلم والقهر والفقر والاضطهاد الديني والفكري وكبت الحريات الأساسية وغياب العدالة الاجتماعية، وخصوصا ما يعانيه العديد من شعوب منطقتنا من حروب وأعمال عنف وحصار اقتصادي وعمليات تهجير وغيرها، ولا سيما الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة”.

وقال البيان: “أشار سماحته الى الدور الذي ينبغي أن تقوم به الزعامات الدينية والروحية الكبيرة في الحد من هذه المآسي، كحث الأطراف المعنيين، ولا سيما القوى العظمى، على تغليب جانب العقل والحكمة ونبذ لغة الحرب، وعدم التوسع في رعاية مصالحهم الذاتية على حساب حقوق الشعوب في العيش بحرية وكرامة، وأكد أهمية تضافر الجهود لتثبيت قيم التآلف والتعايش السلمي والتضامن الإنساني في كل المجتمعات، بناء على رعاية الحقوق والاحترام المتبادل بين أتباع مختلف الاديان والاتجاهات الفكرية.

ونوه سماحته بمكانة العراق وتاريخه المجيد ومحامد شعبه الكريم بمختلف انتماءاته، وأبدى أمله بأن يتجاوز محنته الراهنة في وقت غير بعيد. وأكد اهتمامه بأن يعيش المواطنون المسيحيون كسائر العراقيين في أمن وسلام مع كامل حقوقهم الدستورية، وأشار الى جانب من الدور الذي قامت به المرجعية الدينية في حمايتهم وسائر الذين نالهم الظلم والأذى في حوادث السنوات الماضية، ولا سيما في المدة التي استولى فيها الارهابيون على مساحات شاسعة في محافظات عراقية عدة، ومارسوا فيها أعمالا إجرامية يندى لها الجبين”.

وختم: “تمنى سماحته للحبر الأعظم وأتباع الكنيسة الكاثوليكية ولعامة البشرية الخير والسعادة، وشكر له تكبده عناء السفر الى النجف الأشرف للقيام بهذه الزيارة”.

ونادرا ما يقبل السيستاني (90 عاما) اللقاءات، ورفض إجراء محادثات مع رئيس الوزراء العراقي الحالي، ورؤساء وزراء سابقين، حسبما قال مسؤولون مقربون منه.

وعقد البابا لقاء تاريخيا مع السيستاني، في لفتة قوية تدعو للتعايش السلمي في أرض عصفت بها الطائفية والعنف. واجتمع الاثنان في مدينة النجف المقدسة بجنوب العراق.

وعرضت الوكالات العالمية لقطات لموكب البابا وهو يتحرك في النجف، قبل أن ينزل منه ويسير في طريق ضيق يؤدي إلى منزل السيستاني.

وعُقد اللقاء مع البابا في منزل السيستاني المتواضع بحارة في النجف وهو المنزل الذي يستأجره منذ عقود.

ورفعت في بعض شوارع النجف لوحات عليها صور البابا فرنسيس وآية الله السيستاني مع عبارة بالانكليزية “اللقاء ‏التاريخي”.‏

والسيستاني أحد أهم الشخصيات في المذهب الشيعي سواء في العراق أو خارجه. ويحظى بنفوذ كبير على الساحة السياسية. وجعلت فتاواه العراقيين يشاركون في انتخابات حرة للمرة الأولى عام 2005، كما شارك بفضلها مئات الآلاف في قتال تنظيم الدولة الإسلامية عام 2014، وأطاحت أيضا بحكومة عراقية تحت ضغط الاحتجاجات الحاشدة عام 2019.

زيارة أور

كما زار البابا فرنسيس مدينة أور الأثرية، واقام صلاة الأديان “من أجل أبناء وبنات إبراهيم”، وبمشاركة أتباع مختلف الديانات والطوائف العراقية، تأكيدا على قيم السلام والتعايش والتسامح والأخوة الإنسانية، لا سيما أن تلك الصلاة، وما ستحمله من معان ورسالات، تتم في مهد الديانة الإبراهيمية. وتعد أور، بحسب مختلف الديانات المسيحية مسقط رأس النبي إبراهيم، وهو بمثابة الأب الروحي لتلك الديانات التوحيدية .

كلمة البابا

ووجه البابا كلمة شدد فيها على الأخوّة والمحبة والعمل على أن تصبح العائلة البشرية مضيافة ترحب بجميع أبناءها، فقال:

أيُّها الإخْوَةُ والأخَواتُ الأعِزّاء،

هذا المَكانُ المُبارَكُ هُوَ مَكانُ الأُصُولِ واليَنابِيع، هُنا بَدأَ عَمَلُ الله وَوُلِدَت دِياناتُنا. وَهُنا، حَيْثُ عاشَ أبونا ابراهيم، يَبْدُو وَكَأنَّنا نَعُودُ إلى بَيْتِنا. هُنا سَمِعَ ابراهيمُ دَعْوَةَ الله، وَمِن هُنا انْطَلَقَ في رِحْلَةٍ غَيَّرَتْ التاريخ. وَنَحْنُ ثَمْرَةُ تِلْكَ الدَّعْوَةِ وَتِلْكَ الرِحْلَة. قالَ اللهُ لإبراهيم: انْظُرْ إلى السَماءِ وأَحْصِ النُجُوم (را. تك 15، 5). في تِلْكَ النُجُومِ رأَى ابراهيمُ وَعْدَ نَسْلِه، لَقَدْ رآنا نَحْنُ. واليَوم، نَحْنُ اليَهُودَ والمَسِيحِيينَ والمُسْلِمين، مَعَ إخوَتِنا وأخَواتِنا مِنَ الدِياناتِ الأُخْرَى، نُكَرِّمُ أبانا ابراهيم وَنَعْمَلُ مِثْلَهُ: نَنْظُرُ إلى السَماءِ وَنَسِيرُ علَى الأرْض.

• نَنْظُرُ إلى السماء. نُشاهِدُ السماءَ نَفْسَها بَعْدَ آلافِ السِنين، وَنَرَى النُجُومَ نَفْسَها. إنَّها تُضيءُ أَحْلَكَ الليالي لأنَّها تُضيءُ مَعًا. وَبِذَلِك، تُعْطِينا السماءُ رِسالَةَ الاتِحاد: يَدْعونا الإلَهُ العليّ، مِن فَوْق، إلى عَدَمِ الانْفِصالِ أبَدًا عَنِ الأخِ المُقيمِ إلى جانِبِنا. اللهُ المُتَعالي مِن فَوْق، يَدْفَعُنا نَحْوَ أخينا المُختَلِفِ عَنَّا. فإذا أرَدْنا أنْ نُحافِظَ علَى الأخُوَّةِ بَيْنَنا، لا يُمْكِنُنا أنْ نُحَوِّلَ نَظَرَنا عَنِ السَماء. نَحْنُ، نَسْلَ ابراهيم وَمُمَثلِي الدِياناتِ المُخْتَلِفَة، نَشْعُرُ قَبْلَ كُلِّ شيءٍ أنَّنا نَحْمِلُ هَذِهِ المَسْؤُولِيَّة: أنْ نُساعِدَ إخوَتَنا وأخَواتِنا لِيَرْفَعُوا نَظَرَهُم وَصَلاتَهُم إلى السَماء. جَميعُنا في حاجَةٍ إلى ذَلِك، لأنَّنا وَحْدَنا لا نَكْفِي أنْفُسَنا. الإنسانُ لَيْسَ كُلّيَّ القُدْرَة، وَلا يَقْدِرُ أنْ يَعيشَ وَحْدَه. إذا أبْعَدَ اللهَ عَن حَياتِه، انْتَهَى بِهِ الأَمْرُ إلى عِبادَةِ الأمُورِ الأرْضِيَّة. لَكِنَّ خَيْراتِ العالَم، التي تَجْعَلُ الكَثيرِينَ يَنْسَوْنَ اللهَ والآخَرين، ليْسَتْ هيَ سَبَبَ رِحْلَتِنا علَى الأرْض. إنَّنا نَرْفَعُ أعْيُنَنا إلى السماءِ لِنَرْتَفِعَ فَوْقَ دُنْيا الأَباطيل، وَنَخْدُمُ اللهَ لِنَخْرُجَ مِن عُبُودِيَّةِ الأنا، لأنَّ اللهَ يَدْفَعُنا إلى المَحَبَّة. هذا هُوَ التَدَيُّنُ الحَقيقيّ: أنْ نَعْبُدَ الله وأنْ نُحِبَّ القريب. في عالَمِ اليَوم، الذي غالِبًا ما يَنْسَى اللهَ العَلِيَّ أو يُقَدِّمُ صُورَةً مُشَوَّهَةً عَنْهُ تَعالى، فإنَّ المُؤْمِنينَ مَدْعُوُّونَ لِيَشْهَدُوا لِصَلاحِه، وَلْيُبَيِّنُوا أُبُوَّتَهُ بأنْ يَكُونوا هُم إخْوَةً فيما بَيْنَهُم.

مِن هذا المَكانِ يَنْبُوعِ الإيمان، مِن أرْضِ أبينا ابراهيم، نُؤَكِّدُ أنَّ اللهَ رَحيمٌ، وأنَّ أَكْبَرَ إساءَةٍ وَتَجْديفٍ هيَ أنْ نُدَنِّسَ اسْمَهُ القُدُوس بِكَراهِيَةِ إخْوَتِنا. لا يَصْدُرُ العَداءُ والتَطَرُّفُ والعُنْفُ مِن نَفْسٍ مُتَدَيِّنَة: بَلْ هذِهِ كُلُّها خِيانَةٌ لِلْدِين. وَنَحْنُ المُؤْمِنين، لا نَقْدِرُ أنْ نَصْمُتَ عِندما يُسيءُ الإرهابُ إلى الدِين. بَلْ واجِبٌ عَلَيْنا إزالَةُ سُوءِ الفَهْم. لا نَسْمَحْ لِنُورِ السَماءِ أنْ تُغَطِّيَهُ غُيُومُ الكَراهِيَة! كانَتْ كَثِيفَةً، فَوْقَ هذا البَلَد، غُيُومُ الإرْهابِ والحَرْبِ والعُنْفِ المُظْلِمَة. وَعانَتْ مِنْها جَميعُ الجَماعاتِ العِرقِيَّةِ والدينيَّة. أَوَدُّ أنْ أذْكُرَ بِصُورَةٍ خاصَّة اليَزِيدِيّين الذينَ بَكَوا لِمَقْتَلِ الكَثيرينَ مِنْهُم، وَشاهَدُوا أُلوفَ النِساءِ والفَتَياتِ والأطْفالِ يُخْطَفُونَ وَيُباعُونَ كَعَبِيد، وَقَدْ أُخْضِعُوا لِلْعُنْفِ الجَسَدِيّ والارْتِدادِ الدينيّ الإجباري. نُصَلّي اليَوْمَ مِن أجلِ الذينَ تَحَمَّلُوا هذهِ الآلام، والذينَ ما زالوا في عِدادِ المَفْقُودِين والمَخْطُوفِين حَتَى يَعُودُوا إلى بُيُوتِهِم قَريبًا. وَنُصَلّي مِن أجلِ احتِرامِ حُرِّيَّةِ الضَّميرِ والحُرِّيَّةِ الدينيَّة والاعتِرافِ بِها في كُلِّ مَكان: إنَّها حُقُوقٌ أَساسِيَّة، لأَنَّها تَجْعَلُ الإنسانَ حُرًّا لِلتَأَمُّلِ في السماءِ التي خُلِقَ لَها.

عِندما اجْتاحَ الإرْهابُ شَمالَ هذا البَلَدِ الحَبيب، دَمَّرَ بِوَحْشِيَّةٍ جُزءًا مِن تُراثِهِ الدينيّ الثَمين، بِما في ذَلِكَ الكَنائِسَ والأَدْيُرَةَ وَدُورَ العِبادَة لِمُخْتَلِفِ الجَماعات. وَلَكِنْ حَتَى في تِلْكَ اللحَظاتِ الحالِكَة، كانَتْ النُجُومُ تَتَألَّق. أُفَكِّرُ في الشَبابِ المُسْلِمين المُتَطَوِّعِين في المُوصِل، الذينَ ساعَدُوا في إعادَةِ تَرْميمِ الكَنائِسِ والأَدْيُرَة، وَبَنَوْا صَداقاتٍ أَخَوِيَّة علَى أنْقاضِ الكَراهِيَة، وأُفَكِّرُ في المَسيحيّينَ والمُسْلِمينَ الذينَ يُرَمِّمُونَ اليَوْمَ مَعًا المَساجِدَ والكَنائِس. كَلَّمَنا الأُسْتاذُ علي ثجيل عَن عَوْدَةِ الحُجَّاجِ إلى هذهِ المَدينة. الحَجُّ إلى الأماكِنِ المُقَدَّسَةِ أَمْرٌ مُهِمّ: إنَّها أَجْمَلُ عَلامَةٍ لِلْحَنينِ إلى السَماءِ وَنَحْنُ علَى الأرْض. لِذَلِك حُبُّ الأماكِنِ المُقَدَّسَة، والمُحافَظَةُ عَلَيْها، ضَرُورَةٌ وُجُودِيَّة، مُتَذَكِرينَ أبانا ابراهيم، الذي أقامَ في أماكِنَ مُخْتَلِفَة مَذابِحَ للهِ مُتَّجِهَةً إلى السماء (را. تك 12، 7 .8؛ 13، 18؛ 22، 9). لِيُساعِدْنا أبونا ابراهيم أنْ نَجْعَلَ الأماكِنَ المُقَدَّسَة، لِكُلِّ واحِدٍ مِنّا، واحَةَ سَلامٍ وَمكانَ لِقاءٍ لِلْجَميع! فَهُوَ، بِأمانَتِهِ لله، صارَ بَرَكَةً لِجَميعِ الشُعُوب (را. تك 12، 3). ولْيَكُنْ وُجُودُنا هُنا اليَوْم علَى خُطاه عَلامَةَ بَرَكَةٍ وَرَجاءٍ لِلْعِراق، والشَرْقِ الأوْسَط، والعالَمِ أجْمَع. السّماءُ لا تَتْعَبُ مِنَ الأرض: اللهُ يُحِبُّ كُلَّ أبْنائِهِ وَكُلَّ الشُعُوب. وَنَحْنُ أيضًا، لا نَتْعَبُ أبَدًا مِنَ النَظَرِ إلى السماء، وَمِنَ النَظَرِ إلى هذهِ النُجُوم، التي نَظَرَتْ وَرَأَتْ أبانا ابراهيم في زَمَنِه.

• نَسيرُ علَى الأرْض. النَظَرُ إلى السماءِ لَمْ يُبْعِدْ عَيْنَيْ ابراهيم عَنِ الأرْض، بَلْ شَجَّعَهُ لِيَسيرَ علَى الأرْض، وأَنْ يَشْرَعَ في رِحْلَةٍ، شَمَلَتْ مِن خِلالِ نَسْلِهِ، كُلَّ زَمانٍ وَمَكان. وَلَكِنْ، كُلُّ شَيءٍ بَدأَ هُنا، مِن هُنا، أَخْرَجَهُ اللهُ “مِن أُور” (را. تك 15، 7). كانَتْ مَسيرَتُهُ مَسيرَةَ خُروج، وَفيها تَضْحِيات: كانَ عَلَيْهِ أنْ يَتْرُكَ الأرْضَ والبَيْتَ والأقْرباء. وَلَكِنْ، بالتَخَلِّي عَن عائِلَتِه، صارَ أبًا لِعائِلَةِ شُعوبٍ كَثيرة. يَحْدُثُ شَيءٌ مُشابِهٌ لَنا أيضًا: في مَسيرَتِنا، نَحْنُ أيضًا مَدْعُوُّونَ أنْ نَتْرُكَ رَوابِطَ وَعَلاقاتٍ تُغْلِقُ عَلَيْنا في مَجْمُوعاتِنا، فَتَمْنَعُنا مِن أنْ نُرَحِّبَ بِمَحَبَّةِ اللهِ اللامَحْدُودَة، وأنْ نَرَى في الآخَرينَ إخوَة. نَعَم، نَحنُ بِحاجَةٍ إلى أنْ نَخْرُجَ مِن أَنْفُسِنا، لأنَّنا نَحْتاجُ بَعْضُنا لِبَعْض. لَقَد جَعَلَتْنا الجائِحَةُ نَفْهَمُ أنَّ “لا أَحَدَ يَخْلُصُ وَحْدَهُ” (رسالة بابويّة العامة، Fratelli tutti، 54). وَمَعَ ذَلِك، تُعاوِدُنا دائِمًا التَجْرِبَة، لِنَضَعَ المَسافاتِ بَيْنَنا وَبَيْنَ الآخَرين. والمَبْدأُ “لِيَنْجُ كُلُّ واحدٍ بِنَفْسِهِ”، يُصْبِحُ عاجِلًا: “الجَميعُ ضِدَّ الجَميع”، وِذَلِكَ أَسْوأُ مِنَ الجائِحَة (را. نفس المرجع، 36). في العَواصِفِ التي نَمُرُّ بِها، لَنْ تُخَلِّصَنا عُزْلَتُنا، وَلَنْ يُخَلِّصَنا السِباقُ إلى التَسَلُّحِ وَبِناءِ الجُدْران. ذَلِكَ يَزيدُنا بُعْدًا بَعْضُنا عَن بَعْض، وَيَزيدُنا غَضَبًا وَكَراهِيَة. وَلَنْ تُخَلِّصَنا عِبادَةُ المال، التي تُغْلِقُنا على أَنْفُسِنا وَتُوْقِعُنا في هُوَةٍ عَميقَةٍ مِن عَدَمِ المُساواةِ تَغْرَقُ فيها البَشَريَّة. وَلَنْ يُخَلِّصَنا الاسْتِهلاكُ الذي يُخَدِّرُ الذِهْنَ وَيَشُلُّ القَلَب.

الطَريقُ الذي تُشيرُ إليْهِ السَماءُ لِنسيرَ فيهِ هُوَ طَريقٌ آخَر. إنَّهُ طَريقُ السَّلام. وَيَطْلُبُ مِنّا، خاصَّةً في العاصِفَة، أنْ نَجْتَهِدَ مَعًا بالاتِجاهِ نَفْسِه. بَيْنَما كُلُّنا نُعاني مِنَ الجائِحَة، وَبَيْنَما تَسَبَّبَتْ الصِّراعاتُ هُنا في شَقاءٍ كَثير، إنَّهُ مِن غَيْرِ اللائِقِ أنْ يَهْتَمَّ أَحَدٌ بِشُؤُونِهِ الخاصَّةِ فَقَط. لَنْ يَكونَ سَلامٌ بِدونِ مُشارَكَةٍ وَقُبولِ الجَميعِ لِلْجَميع، وَبِدونِ عَدالَةٍ تَضْمَنُ المُساواةَ والازْدِهارَ لِلْجَميع، بَدْءًا بالمُسْتَضْعَفِين. وَلَنْ يَكونَ سَلامٌ بِدونِ أنْ تَمُدَّ الشُعُوبُ يَدَها إلى الشُعوبِ الأُخْرَى. وَلَنْ يَكونَ سَلامٌ ما زِلْنا نَعْتَبِرُ الآخَرينَ أَنَّهُم آخَرُون، وَلَيْسُوا “نَحنُ”، جُزْءًا مِنّا. وَلَنْ يَكونَ سَلامٌ ما دامَتْ التَحالُفاتُ تَنْشَأُ ضِدَّ أَحَدٍ ما، لأنَّ تَحالُفاتِ البَعْضِ ضِدَّ البَعْض لا تَزيدُ إلّا الانْقِسامات. السَّلامُ ليْسَ فيهِ غالِبونَ وَمَغْلُوبون، بَلْ إخْوَةٌ وأَخَوات، يَسيرونَ مِنَ الصِّراعِ إلى الوَحْدَة، رَغْمَ سُوءِ التَفاهُمِ وَجِراحِ الماضي. لِنُصَلِّ وَلْنَطلُبْ هذا السَّلامَ لِكُلِّ الشَرْقِ الأوْسَط، وَأُفَكِّرُ بِشَكْلٍ خاصّ في سوريا المُجاوِرَة المُعَذَّبَة.

كانَ أبونا ابراهيم نَبيَّ العَليّ، وَهُوَ الذي يَجْمَعُنا اليَوْمَ مُتّحِدِينَ مَعًا. تَقُولُ نُبُوءَةٌ قَديمَةٌ إنَّ الشُعُوبَ “سَيَضْرِبونَ سُيُوفَهُم سِكَكًا وَرِماحَهُم مَناجِل” (أش 2، 4). هَذِهِ النُّبُوءَةُ لَمْ تَتَحَقَّقْ، بَلْ السُيوفُ والرِماحُ صارَتْ صَواريخَ وَقنابِل. فَمِنْ أينَ يُمْكِنُ أنْ يَبْدأَ طَريقُ السَّلام؟ بأَنْ نَعْمَلَ علَى ألَّا يَكونَ لَنا أعْداء. مَنْ كانَتْ لَهُ الشَجاعَةُ لِيَنْظُرَ إلى النُجُوم، وَمَن يُؤْمِنُ بالله، لَيْسَ لَهُ أعْداءٌ يُقاتِلُهُم. لَهُ عَدُوٌّ واحِدٌ فقط، واقِفٌ على بابِ القَلْبِ وَيَقْرَعُ يُريدُ الدُخُول: هُوَ العَداوَة. يَسْعَى البَعْضُ لِيَكونَ لَهُم أعْداء، أَكْثَرَ مِن سَعْيِهِم لِيَكونَ لَهُم أصْدِقاء، وَيَبْحَثُ كَثيرونَ عَن مَصالِحِهِم الخاصَّة علَى حِسابِ الآخَرين. إلّا أنَّ مَنْ يَنْظُرُ إلى النُجُومِ والوُعُود، وَمَن يَتْبَعُ طُرُقَ الله، لا يُمْكِنُ أنْ يَكونَ عَدُوًّا لأَحَد، بَلْ هُوَ مِن أجلِ الجَميع. ولا يُمْكِنُ أنْ يُبَرِّرَ أيَّ شَكْلٍ مِن أشكالِ الهَيْمَنَةِ والظُّلْمِ والانتِهاك، وَلا يُمْكِنُ أنْ يَعْتَدِيَ علَى أَحَد.

أيُّها الأصْدِقاءُ الأعِزّاء، هَلْ كُلُّ هذا مُمْكِن؟ يُشَجِّعُنا أبونا ابراهيم، هُو الذي عَرَفَ أنْ يَرْجُو على غَيْرِ رَجاء (روم 4، 18). في عِبْرِ التاريخ، كَثيرًا ما سَعَيْنا إلى تَحْقيقِ أهْدافٍ أرْضِيَّةٍ فقط، وَسارَ كُلٌّ مِنّا بِمُفْرَدِه، لَكِنْ بِعَوْنِهِ تَعالَى يُمْكِنُنا أنْ نُبَدِّلَ أنْفُسَنا نَحْوَ الأفْضَل. عَلَيْنا نَحْنُ إنْسانِيَّةَ اليوم، وَقَبْلَ كُلِّ شَيء، نَحنُ المُؤْمِنينَ مِن كُلِّ الأدْيان، أنْ نُحَوِّلَ أَدَواتِ الكَراهِيَةِ إلى أَدَواتِ سَلام. عَلَيْنا نَحنُ أنْ نَحُثَّ المَسْؤُولينَ عَنِ الشُعوب، وَبِشِدَّة، حَتَى يُبَدِّلُوا انْتِشارَ الأَسْلِحَةِ المُتَزايِدِ بِتَوزيعِ الغِذاءِ لِلْجَميع. عَلَيْنا نَحْنُ أنْ نُسْكِتَ الِاتِّهاماتِ المُتَبادَلة، لِنَسْمَحَ بِسَماعِ صُراخِ المَظْلومينَ والمُبْعَدِينَ علَى هذا الكَوْكَب: كَثيرُونَ هُمْ المَحْرُومونَ مِنَ الخُبْزِ والدَواءِ والتَعْليمِ والحُقُوقِ والكَرامَة! عَلَيْنا نَحْنُ أنْ نُسَلِّطَ الضَّوْءَ علَى المُناوَراتِ المَشْبُوهَة التي تَدُورُ حَوْلَ المال، وأنْ نَطْلُبَ بِشِدَّةٍ أنْ لا يَذْهَبَ المالُ دائِمًا لِتَغْذِيَةِ شَهْوَةِ البَعْضِ الجامِحَة. عَلَيْنا نَحْنُ أنْ نَحْرُسَ بَيْتَنا المُشْتَرَك مِن نَوايانا المُدَمِّرَة. عَلَيْنا نَحْنُ أنْ نُذَكِّرَ العالَمَ بأنَّ الحَياةَ البَشَريَّة قيمَتُها بِما هي، وليْسَ بِما تَمْلِك، وأنَّ حَياةَ الجَنين، وكِبارِ السِّن، والمُهاجِرين، رِجالًا وَنِساءً مِن كُلِّ لَوْنٍ وَقَوْمِيَّة، هيَ دائِمًا مُقَدَّسَة، وَقيمَتُها مِثْلُها مِثْلُ حَياةِ الجَميع! عَلَيْنا نَحْنُ أنْ نَتَحَلَّى بالشَجاعَةِ لِنَرْفَعَ أَعْيُنَنا وَنَنْظُرَ إلى النُجُوم، نُجُومِ الوَعْد، النُجُومِ التي رأَتْ أبانا ابراهيم.

كانَتْ مَسيرَةُ ابراهيم بَرَكَةَ سَلام. لَكِنْ لَمْ تَكُنْ سَهْلَة: كانَ عَلَيْهِ أنْ يُواجِهَ مَعارِكَ وأحْداثًا غَيْرَ مُتَوَقَّعَة. أمامَنا نَحْنُ أيضًا طَريقٌ وَعْر، وَنَحْتاجُ، مِثْلَ أبينا ابراهيم، أنْ نَتَّخِذَ خَطَواتٍ مَلْموسَة، وأنْ نَحِجَّ نَحْوَ الآخَرِ حتَى نَكْتَشِفَ وَجْهَهُ، وأنْ نَتَبَادَلَ الذِكْرَيات، والنَّظَراتِ ولَحَظاتِ الصَّمْت، والقِصَصَ والخِبرَات. أثَّرَتْ فيَّ شَهادَةُ السَيِّدَين داود وَحَسَن، مَسيحي وَمُسْلِم، دَرَسُوا مَعًا وَعَمِلُوا مَعًا وَلَمْ تُحْبِطْهُم الاخْتِلافات. مَعًا بَنَوْا المُسْتَقْبَل، واكْتَشَفُوا أنَّهُما إخوَة. لِلْمُضِيِّ قُدُمًا، نَحْتاجُ نَحْنُ أيضًا إلى أنْ نَقومَ مَعًا بِشَيءٍ جَيِّدٍ وَعَمَليّ. هذا هُو الطَريق، خاصَةً لِلْشَبابِ الذينَ لا يَسْتَطيعونَ أنْ يَرَوْا أحْلامَهُم تَتَحَطَّمُ بِسَبَبِ صِراعاتِ الماضي! مِنَ الضَّرُوريّ تَنْشِئَتُهُم علَى الأُخُوَّة، مِنَ الضَّرُوريّ تَنْشِئَتُهُم لِلْنَظَرِ إلى النُجُوم. وهذا أمْرٌ عاجِلٌ حقًّا، لأنَّهُ اللُقاحُ الأَكْثَرُ فَعَالِيَّةً لِبُلُوغِ غَدٍ فيهِ سَلام. لأَنَّكُم أَنْتُم، أيُّها الشَبابُ الأعِزّاء، حاضِرُنا وَمُسْتَقْبَلُنا!

مَعَ الآخَرينَ فَقَط يُمْكِنُ أنْ تَلْتَئِمَ جِراحُ الماضي. تَحَدَّثَتْ السَيِّدَة رَفَح عَن مِثالِ ناجي البُطُوليّ، مِن طائِفَةِ الصابِئَةِ المَنْدائِيين، الذي فَقَدَ حَياتَهُ في مُحَاوَلَةٍ لإنْقاذِ عائِلَةِ جارِهِ المُسْلِم. كَمْ مِنَ الناسِ هُنا، في صَمْتِ العالَمِ وَعَدَمِ اهتِمامِه، بَدَأُوا رِحْلاتِ الأُخُوَّة! تَحَدَّثَتْ أيضًا لنا السَيِّدَة رَفَح عَن مُعاناةِ الحَرْبِ التي لا تُوْصَف، والتي أَجْبَرَتْ الكَثيرينَ أنْ يَتْرُكُوا بُيُوتَهُم وَوَطَنَهُم بَحْثًا عَن مُسْتَقْبَلٍ لأَبْنائِهِم. شُكْرًا، رَفَح، علَى مُشارَكَتِنا إرادَتَكِ الراسَخَة لِلْبَقاءِ هُنا في أرْضِ آبائِك. كَثيرونَ لَمْ يَنْجَحُوا واضْطُرُّوا إلى الفِرار. أَتَمَنَّى أنْ يَجِدُوا تَرْحيبًا وِدِّيًّا يَسْتَحِقُّهُ أشْخاصٌ ضُعَفاءُ وَجَرْحَى.

بالتَحْديد، مِن خِلالِ حُسْنِ الضِيافَة، وَهيَ سِمَةٌ مُمَيَّزَة لِهَذِهِ البِلاد، حَظِيَ ابراهيم بِزيارةِ الله، وَوَهَبَهُ اللهُ ابْنًا علَى غَيْرِ تَوَقُّعٍ مِنْهُ. (را. تك 18، 1-10). نَحْنُ، الإخْوَةَ والأَخَواتِ مِن دِياناتٍ مُخْتَلِفَة، التَقَيْنا اليَوْمَ هُنا، في بَيْتِنا، وَمِن هُنا، مَعًا، نُريدُ أنْ نَلْتَزِمَ حتَى نُحَقِّقَ حُلْمَ الله وَهُوَ: أنْ تُصْبِحَ العائِلَةُ البَشَريَّة مِضْيافَةً تُرَحِّبُ بِجَميعِ أبْنائِها. وإذْ نَنْظُرُ مَعًا إلى السَماءِ نَفْسِها، نَسيرُ بِسَلامٍ على الأرْضِ نَفْسِها.

صلاة أبناء إبراهيم في ختام اللقاء بين الأديان في أور: اختُتمت كلمة قداسة البابا فرنسيس في اللقاء بين الأديان في أور بصلاة يرفعها أبناء إبراهيم، وهذا نصها:

أيُّها الإلَهُ القَدير، يا خَالِقَنا ويا مُحِبَّ البَشَرِ وَكُلِّ ما صَنَعَتْ يَداك، نَحْنُ أبْناءَ وَبَناتِ ابراهيم المُنتَمِينَ إلى اليَهُوديَّةِ والمَسيحيَّةِ والإسْلام، مَعَ كافَةِ المُؤْمِنينَ وَجَميعِ أصْحابِ النَوايا الحَسَنَة، نَشْكُرُكَ لأنّكَ أعطَيْتَنا ابراهيم، ابنَ هذهِ الأرْضِ النَبِيلَةِ والعَزِيزَة، أبًا مُشتَرَكًا في الإيمان.

نَشكُرُكَ لأنَّهُ مِثالُ الرَجُلِ المُؤمِن، الذي أطاعَكَ حتى النِهايَة، فَتَرَكَ عائِلَتَهُ وَقَبِيلَتَهُ وَوَطَنَهُ لِكَي يَذهَبَ إلى أرضٍ لا يَعْرِفُها.

نَشْكُرُكَ أيضًا على المِثالِ الذي قَدَّمَهُ لنا أبونا المُشْتَرَك في الشَجاعةِ، والثَباتِ وقُوَةِ النَفس، والكرَمِ والضِّيافَة.

نَشْكُرُكَ، بِصُورةٍ خاصّة، لإيمانِهِ البُطوليّ، الذي أظْهَرَهُ باسْتِعدادِهِ للتَضْحِيَةِ بِابنِهِ طاعَةً لِأمْرِك. إنَّنا نُدرِكُ أنَّ ذَلِكَ كانَ لَهُ امتِحانًا في غايَةِ الصُّعُوبَة، لَكِنَّهُ خَرَجَ مِنْهُ مُنْتَصِرًا، لأنَّهُ وَثِقَ بِكَ دونَ تَحَفُظ، أنتَ الرَحِيمُ الذي يَمْنَحُ دومًا فُرَصًا لِلْبَدءِ مِن جَديد.

نَشكُرُكَ لأنَّكَ أفَضْتَ بَرَكَتَكَ على أبينا إبراهيم فَجَعَلْتَهُ بَرَكَةً لِجَميعِ الشُعُوب.

يا إِلَهَ أبينا إبراهيمَ وإِلَهَنا، نَسْأَلُكَ أنْ تَمْنَحَنا إيمانًا قَويًّا، جادًّا في عَمَلِ الخَير، إيمانًا يَفْتَحُ قُلُوبَنا لَكَ ولِكُلِّ إخوَتِنا وأخَواتِنا، ورجاءً لا يَخيب، قادِرًا على أنْ يَرَى أمانَةَ وُعُودِكَ في كُلِّ مَكان.

اجْعَلْ كُلَّ واحِدٍ منّا شاهِدًا على اهتِمامِكَ وَحُبِّكَ لِلْجَميعِ وَخاصَّةً اللاجئينَ والمُشَرَّدين، والأرامِلِ والأيتام، والفُقَراءِ والمَرضى.

افتَحْ قُلُوبَنا لِلْمَغْفِرَةِ المُتَبادَلَة، فنُصْبِحَ أَدَواتٍ لِلْمُصَالَحَةِ، فنَبْنِيَ مُجْتَمَعًا أكثرَ عَدالَةً وأُخُوَّة.

اقبَلْ جَميعَ المَوتى في دارِ الأبَديَّة، دارِ السَّلامِ والنُور، وَخاصَّةً ضَحايا العُنْفِ والحُروب.

اعْضُدِ السُّلُطاتِ المَدَنيَّةَ في البَحْثِ عنِ المَخْطُوفينَ والعُثورِ عَلَيْهِم، وفي حِمايَةِ النِساءِ والأطفالِ بِصُورَةٍ خاصَّة.

ساعِدْنا أنْ نَعْتَنِيَ بالأرْض، بَيْتِنا المُشْتَركِ الذي وَهَبْتَهُ، بِجُودِكَ وَصَلاحِكَ، لنا جَميعًا.

أيِّدْنا في إعادَةِ بِناءِ هذهِ البِلاد، وامنَحْنَا القُوَّةَ اللازِمَةَ لمُساعَدَةِ الذينَ اضْطَرُّوا إلى مُغادَرَةِ بيُوتِهِم وأراضِيهِم، لِلْعَوْدَةِ بأمانٍ وَكَرامَة، لبَدْءِ حَياةٍ جَدِيدَةٍ مُطْمَئِنَّةٍ ومُزْدَهِرَة. آمين.

قداس في بغداد

في باحة كاتدرائية مار يوسف للكلدان، انتظرت جموع من المصلين المسيحيين الذين تضاءلت أعدادهم على مرّ السنوات في بغداد، بصمت مهيب رجلاً لم يحلموا قطّ برؤيته.

هناك أقام البابا للمرّة الأولى قداساً بالطقس الكلداني، فاق عدد المشاركات به من النساء الرجال، ارتدت بعضهن غطاءً أنيقاً أسود أو أبيض فوق رؤوسهن، احتراماً للزعيم الروحي لأكثر من 1,3 مليار مسيحي في العالم.

في الباحة، وانتظاراً لأول قدّاس يحييه حبر أعظم في العراق، جلس الحضور على مقاعد خشبية مزينة بأزهار زاهية، حاملين بأيديهم مسابح أو كتب صلاة صغيرة، فيما فصلتهم دقائق قليلة للقاء البابا فرنسيس.

فجأة،انكسر الهدوء الذي كان يخيم على الأجواء، وارتفعت مئات الأيادي بشكل عفوي إلى السماء. وصل البابا بملابسه البيضاء إلى الباحة الخارجية للكاتدرائية، وبدت على وجهه السعادة لكونه تمكّن أخيراً من أن يكون قريباً من مؤمنين انتظروه بفارغ الصبر.

بالزغاريد وتراتيل الطقس الشرقي التي تليت باللغة العربية، استقبل المصلون، بعد طول انتظار، البابا أخيراً.

فيما عبر الحبر الأعظم الرواق المؤدي إلى الكنيسة، لم يتوانَ الحضور مراراً وتكراراً عن رفع هواتفهم لسرقة صورة ذاتية معه، بل نزعوا كماماتهم عدة مرات لتظهر ابتسامات فرحةً لم يتمكنوا من احتوائها في ظلّ هذه المناسبة التاريخية.

بدت الحماسة واضحةً أيضاً على وجوه الشباب من الحضور رغم أن عددهم كان قليلاً.

واستعدت جوقة أطفال لاستقبال البابا بالتراتيل. من بينهم فتاة صغيرة وضعت على رأسها قبعة كبيرة الحجم وعليها صورة البابا، قالت وقد بدا عليها الحماس “تدربنا لثلاثة أيام كاملة” استعداداً لاستقبال الضيف الاستثنائي.

توجّه البابا إلى الحضور بكلمة عن التواضع والمحبّة أججت مشاعر نبيل يعقوب البالغ من العمر 46 عاماً، والذي يقطن في بغداد منذ زمن طويل. وقال الرجل “لقد نجوت من كل شيء، من الطائفية، من العنف، من التفجيرات في بغداد”، فيما جلس في الصف الأول في باحة الكنيسة حيث شاهد القداس عبر شاشة.

“البابا هنا اليوم

رغم الفرح العارم الذي خيّم على المكان، إلا أن الحضور داخل الكنيسة كان محدوداً، على خلفية تفشي وباء كوفيد-19، إذ منحت كل رعيّة في بغداد 13 دعوة فقط لتوزيعها على الرعايا التابعين لها، كما قال الأب نظير دكو في الكاتدرائية، ويسمح لهؤلاء فقط بدخول الكنيسة.

وقال دكو الذي تلى خلال القداس نصاً من إنجيل القديس متى بلحنٍ شرقيّ خاص بطقوس الكنيسة الكلدانية المشرقية إن “هذا أول لقاء حقيقي يجمع قداسته مع رعيته”.

في القداس، بارك البابا فرنسيس القربان والنبيذ اللذين يرمزان بالنسبة للمسيحيين إلى دم وجسد المسيح، لكنّه لم يقم بطقس المناولة شخصياً.

وقام بدلاً منه العشرات من رجال الدين بتقديم القربان للمصلين. وطلبت امرأة من الكاهن أن يضع قطعة القربان لها في صندوق صغير لتأخذه معها إلى قريب مريض.

وفيما همّ البابا بالمغادرة، بدأ الحضور بهتاف عبارة “فيفا بابا” أو “ليحيا البابا”.

وكانت زيارة البابا فرنسيس حتى الآن محكومةً بقواعد احتواء وباء كوفيد-19، وبدأت بلقاءات رسمية في بغداد الجمعة، ولقاء مع المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني السبت، بالإضافة إلى زيارة لأور جنوباً. لكن كل تلك اللقاءات خلت من الجموع الغفيرة التي عادة ما تلاقي حبراً أعظم في مثل هذه الزيارات.

وأثارت تلك التدابير غضب عدد من المسيحيين البغداديين، ممن لم يتسنَّ لهم المشاركة في القداس داخل الكنيسة، رغم أنّهم عانوا في تجنّب الحواجز الأمنية العديدة التي أقيمت في جميع الطرق المؤيدة إليها، ليصلوا إلى بواباتها.

من بين هؤلاء الذين بقوا في الخارج، سميرة يوسف العراقية الكاثوليكية التي جاءت مع أختها لمحاولة حضور القداس. وقالت لفرانس برس “كنت أنتظر خارج الكنيسة منذ الظهر، كنت أنتظر هذه اللحظة طوال حياتي”. وأضافت “إذا لم يسمحوا لي بالدخول… سأبكي”.

في الجوار، وقف طفل صغير وهو يحك رأسه بينما كان ينظر إلى حراس الفاتيكان وهم يغلقون بوابة الكنيسة التي تفوقه طولاً بثلاثة أضعاف. وقال فهد وهو مسلم يبلغ من العمر 12 عاماً “أنا أعيش في الجوار وآتي إلى هنا طوال الوقت لإضاءة الشموع”. وأضاف “لكن البابا هنا اليوم… أتمنى أن يصبح الأمر طبيعيًا ويأتي إلى العراق طوال الوقت”.


Spread the love

MSK

اترك تعليقاً