الراعي: ما كنّا نتصوّر أن يبلغ لبنان هذا الإنحطاط والتقهقر والشرعية رهينة لعبة المحاور الإقليمية
ترأس البطريرك الماروني الكاردينال، مار بشارة بطرس الراعي، قدّاس عيد البشارة لمناسبة الذكرى السنوية العاشرة على تولّيه السدّة البطريركية، في كنيسة السيّدة في الصرح البطريركي في بكركي، عاونه فيه المطرانان بولس روحانا ويوسف سويف، بمشاركة السفير البابوي المونسينيور جوزيف سبيتاري، ولفيف من المطارنة والكهنة والراهبات، في حضور وزير الإتصالات، في حكومة تصريف الأعمال، طلال الحواط، رئيس الرابطة المارونية، النائب السابق نعمة الله ابي نصر، رئيس تجمع “موارنة من أجل لبنان”، المحامي بول يوسف كنعان، السفير خليل كرم، رابطة قنوبين للرسالة والتراث، والأسرة البطريركية.
بعد الإنجيل المقدَّس، ألقى الراعي عظة بعنوان: “في الشهر السادس، أرسل الملاك جبرائيل من عند الله” (لو 1: 26)، ومما جاء في عظته أنّه قال:
الآن، والأزمة السياسية وتداعياتها الإقتصادية والمالية والمعيشية تشتدّ أكثر فأكثر، ترانا أمام واجب إستنباط طرق إضافية لمساعدة شعبنا الجائع والمحروم من المال والدخل والخبز والمواد الغذائية والأدوية. فالأوضاع لا تَحتمل التأجيل، وخدمة المحبة تقتضي تنظيمًا أوسع.
وبروح “الشركة والمحبة”، تعاطينا الشأن الوطني، وحملنا قضية لبنان في زياراتنا الراعوية الداخلية والخارجية، مطالبين بتحييد لبنان عن الصراعات والحروب الدائرة في منطقة الشرق الأوسط، وقد أحدثَت في الداخل اللبناني إنقسامًا سياسيًّا أدّى إلى تأخير الإنتخابات النيابية وتعطيل الإنتخابات الرئاسية سنتَين ونصفًا، وتعليق العمل بالدستور، وشلّ المؤسسات الرسمية، وقيام أعمال إرهابية قمعها جيشنا وإنتصر، وتغييب لبنان عن العرب والعالم، وقد ساد الفساد وإنتشر، فإنهار لبنان إقتصاديًّا وماليًّا، وجاءت جائحة كورونا وإنفجار مرفأ بيروت لينهكا البلاد.
ومن ناحية أخرى، كنّا نطالب بحلّ قضية اللاجئين الفلسطينيين، وبعودة المليون ونصف نازح سوري إلى وطنهم ومساعدتهم على إستعادة حياتهم فيه بكرامة، ومتابعة كتابة تاريخهم على أرضهم، والمحافظة على حضارتهم لئلّا تتبدّد. فقيمة الشعوب والبلدان في حضاراتهم.
لقد واكبنا طيلة هذه السنوات جميع التطورات، ولم نحجب نصيحة أو مساعدة، وبذلنا جهودًا مضنية لإقناع المعنيين بسلوك طريق الثوابت اللبنانية ومنطوق الدستور من دون إجتهادات عبثية لا تفيد أحدًا. وضغطنا لإجراء الإصلاحات الضرورية في مؤسّسات الدولة والمجتمع والمناطق لمنع سقوط البلاد.
ما كنّا نتصوّر يومًا أن يبلغ لبنانُ، منارةُ الشرق، ولقاءُ الحضارات، هذ الدرْك من الإنحطاط والتقهقر. ما كنّا نتصوّر يومًا أن تتنازل الشرعيةُ عن قرارها وحقّها وصلاحيّاتها وتصبح رهينة لعبة المحاور الإقليمية. ما كنّا نتصوّر أن تفشل الدولة، بعد مئة سنة على وجودها الديمقراطي، في تأليف حكومة.
إننا، بحكم مسؤولية هذا الصرح الوطنية والتاريخية، مصمّمون على مواصلة مسيرة إنقاذ لبنان واللبنانيين، كل اللبنانيين، ولن نيأس.
لهذا السبب، طالبنا بتحرير الشرعية والدولة، ووجّهنا نداء إلى أشقاء لبنان وأصدقائه في بلاد العرب والعالم لمساعدة لبنان. ولهذا السبب اقترحتا اعتماد الحياد الناشط ليستعيد لبنان توازنه واستقراره. ولهذا السبب دعونا الأمم المتحدة إلى رعاية مؤتمر دولي خاص بلبنان.
ولهذا السبب نجدّد دعوتنا إلى النهوض من كبوة تأليف الحكومة فيضع الرئيس المكلَّف تشكيلة حكومية ممتازة، ويقدّمها إلى رئيس الجمهورية، ويتشاورا في ما بينهما بروح صافية ووطنية إلى أن يتّفقا على الأسماء الجديدة وتوزيع الحقائب في إطار المساواة وعلى أسس الدستور والميثاق.
إنّ تزامن خدمتي البطريركية، في ذكرى سنتها العاشرة، مع بداية مئوية لبنان الثانية، يضعني أمام واجب جعل خدمتي نذرًا لله بالصلاة اليومية والعبادة، ونذرًا للبنان الوطن الروحي للموارنة حيث فيه كل جذورهم وتراثهم، بالتضحيات التي تتواصل من جيل إلى جيل. لكن لبنان كدولة مدنية هو لجميع اللبنانيين مسيحيين ومسلمين. والحفاظ عليه مسؤولية جماعية تشارك فيها كل المكوّنات اللبنانية، كعلامة لإيماننا المطلق بوحدة لبنان وهويته ودوره في الشرق والعالم.
المئوية الثانية تقتضي تأسيس لبنان الكبير لا على الأرض، بل في وجداننا جميعًا، وفي عقولنا وقلوبنا. وتقتضي الإعتراف بنهائية الوطن اللبناني، لا كإعلان دستوري فقط، بل كفعل إيمان عاطفي وعفوي وكمسار تاريخي وحضاري في حياتنا الوطنية. قدّرنا الله، بشفاعة أمّنا مريم العذراء سيدة البشارة، أن نفي معًا هذا النذر تمجيدًا لله الآب والإبن والروح القدس، الآن وإلى الأبد.