القاضي محمود عدنان مكيّه أمين عام مجلس الوزراء: المعنى «الضيّق» لتصريف الأعمال
في ضوء الجمود والمُراوحة المُسيطران على إنتخاب رئيس للجمهورية وإنعكاساتهما السلبية على النظام السياسي واستقراره، كَثُرت التأويلات والتحليلات حول مفهوم تصريف الأعمال من قبل الحكومة الذي أوجبه الدستور في المادة /64/ بالمعنى الضّيق، فالبعض يُقارب المسألة من زاوية دستورية والبعض الآخر يَتناولها من منظورٍ قانونيّ لكن بخلفيّة سياسيّة تبعاً لمصالح شخصية قد تكون غريبة عن عالم الدستور والقانون.
وقد سبق وبحثنا بشكلٍ مُفَصّل صلاحيات رئيس الجمهورية وتطرّقنا بإسهاب لمسألة إنتقال هذه الصلاحيات وكالةً عند خلوّ سدّة الرئاسة إلى مجلس الوزراء كهيئـــة جماعيّة وفقاً لمنطوق المادة /62/ من الدستور، وإلى حكومة تصريف الأعمال عملاً بمبدأ استمراريّة المرفق العام وتَحاشياً للوقوع في الفراغ، وذكرنا حينها بأنه لا بدّ من وجود سلطة تُناط بها مُهمّة استمرارية الدولة بين تاريخ استقالة الحكومة وتأليف حكومة جديدة، بإعتبار، «إنّ الفراغ في المؤسسات الدستورية يَتعارض والغاية التي وجِدَ من أجلها الدستور، ويُهدد النظام بالسقوط ويضع البلاد في المجهول» على النحو الذي اورده المجلس الدستوري في قراره رقم 7/2014 تاريخ 28/11/2014. (تُراجع: دراستنا حول صلاحيات رئيس الجمهورية بين الأصالة والوكالة وتصريف الأعمال، دراسة منشورة في جريدة الشرق الأوسط بتاريخ 28 ايلول 2022 وفي المجلة القضائية ــــ صادر، دراسات وآراء، بتاريخ 30 ايلول 2022) إلا أننا في بحثنا الحاضر أردنا الإضاءة على الجانب المُتعلّق بحدود تصريف الأعمال بالمعنى الضيّق الذي كرّسته المادة /64/ من دستور ما بعد الطائف ورفعته الى مصاف القواعد الملزمة بعد أن كان في السابق (قبل التعديل) من الأعراف الدستورية. ويُلاحظ أن النصوص كافة غَفَلت عن رسم إطار تصريف الأعمال، وجاءت المُمارسة لتؤكد على الجانب الإشكالي من هذه المسألة الدستورية، في وقت من المُفترض أن تَضيق وتتوسّع مجالات تطبيقها تبعاً للظروف والحالة القائمة بهدف المُحافظة على مصلحة البلاد العُليا وصون حقوق المواطنين والحرص على سلامة المؤسسات وانتظام عملها.
بحسب النظرة الكلاسيكية، إن تضييق صلاحيات الحكومة المستقيلة تفرضه الطبيعة البرلمانية للنظام بحيث تنعدم بفعل الاستقالة رقابة مجلس النواب على تصرفات الحكومة ما حدا بمجلس شورى الدولة إلى ربط مُمارسة الحكومة لصلاحياتها بدوام مسؤوليّتها أمام البرلمان، فميّز بين الأعمال الجارية «Les affaires courantes» والمقصود بها، كما حدّدها الفقيه Pierre Devolvé (مفوض الحكومة لدى مجلــس شورى الدولة الفرنسي)، بالأعمال العاديّة اليوميّة والروتينيّة، والأعمال التصرفيّة وهي التي تخرج بطبيعتها عن نطاق الأعمال الجارية، والتي لا يحقّ للحكومة القيام بها إلاّ في الحالات الطارئة والمُلحّة.
(يراجع: قرار مجلس شورى الدولة رقم 613 تاريخ 17/12/1969؛ راشد/ الدولة اللبنانية) هذه النظرية وإن كانت صحيحة في جوهرها ولكنها وجِدَت لترعى المسألة موضوع البحث في الحالات العادية أو الطبيعية وهي الحالة التي تستدعي تشكيل حكومة جديدة في غضون أيام معدودة بما يكفل الانتقال السلس للسلطة ويؤمن رعاية أمور العباد والبلاد. ولكن هل من المُمكن الركون فقط إلى هذا المبدأ في الحالات الاستثنائية أو بالأحرى غير الطبيعية ونقصد بذلك الحالات التي تستغرق فيها عملية تشكيل الحكومة أشهر لا بل سنوات. وللدلالة على ذلك نجد أن عمر حكومة الرئيس حسان دياب بلغت (202) يوماً في حين أن المرحلة الفاصلة بين إستقالة حكومته وحكومة الرئيس نجيب ميقاتي ــــ أي فترة تصريف الأعمال ـــ بلغت (397) يوماً، وسبقتها حكومة الرئيس فؤاد السنيورة التي باتت بحكم حكومة تصريف الأعمال من نهاية عام 2006 ولغاية منتصف عام 2008 وفاقت بذلك مدّة تصريف أعمالها مدة الحكومة الفعلية !!!! أمام هذا الواقع لا مندوحة من مُجاراة البعض في الاعتبار بأنّ حدود تصريف الأعمال يتأثر بطول فترة استقالة الحكومة، فكلّما طالت المدة توسّعت حتماً دائرة تصريف الأعمال لتتمكّن الحكومة من القيام بالأمور الضروريّة والحياتيّة لمواطنيها، حتى ولو ادّى ذلك إلى إتخاذ تدابير تصرفية يفرضها مبدأ استمرارية الدولة الذي يرتكز بدوره إلى مبدأ استمرارية قيام المؤسسات الدستورية بمهامها. (يُراجع: – زهير شكر، الوسيط في القانون الدستوري اللبناني، الجزء الثاني،2019 ص: 863)
Edmond Rabbat : la constitution libanaise, origines textes et commentaires,1982 p.451 et s.) هذه الخلاصة الدستورية لم تأتِ من فراغ وهي ليست وليدة الساعة أو غب الطلب، إذ أنه ومن مراجعة خزائن الاجتهاد الإداري يتبدّى أن مجلس شورى الدولة سبق وأن تعرّض لهذه المسألة فأورد ما حرفيته: « أنّ تصريف الاعمال هي نظرية مُعدّة للتطبيق خلال فترة زمنية مُحدّدة انتقالية يَجب أن لا تتعدى الاسابيع أو حتى الايام. وان تمدّدِها لفترة أطول لا بدّ أن ينعكس على مفهومها برمته حتى يستطيع تحقيق الهدف منها وهو تأمين استمرارية الدولة ومصالحها العامة ومصالح المواطنين. وأن هذه الفترة الانتقالية عندما تمتد لعدة اشهر فإنّه يُصبح من الواجب التعامل مع هذا الواقع بشكل يَسمح للحكومة تأمين استمراية المرافق العامة وتأمين مصالح المواطنين التي لا يمكن أن تنتظر لمدة أطول خاصة إذا كانت مُمارسة تلك الحقوق ناتجة عن أعمال إدارية قانونية مُستوفية لكافة الشروط المَفروضة في القوانين والأنظمة وهي تؤمن مَصالح فردية مَشروعة دون أن يكون لها الطابع التنظيمي العام أو تَحدّ من حقّ الحكومة المُقبلة في مُمارسة صلاحياتها الاستنسابية». (يُراجع: مجلس شورى الدولة، القرار رقم 137/2015-2016 تاريخ 1/12/2015 زينة بو مارون/ الدولة، والقرار رقم 349/2014-2015 تاريخ 23/2/2015 طانيوس يونس ورفاقه/ الدولة- 20/1/2014). هذا المنحى أتى مُتناغماً مع ما خلُص اليه الفقه الفرنسي حيث رأى الأستاذ Fernand Bouyssou في الدراسة التي أعدّها تحت عنوان «l’introuvable notion d’affaires courantes» حول عمل الحكومات المُستقيلة في ظلّ الجمهورية الفرنسية الرابعة، أنّه يُمكن للحكومة إذا طال أمد الأزمة أن تُمارس نشاطها بشكل شبه عادي، كما أتى مُنسجماً مع ما سار عليه الفقه والإجتهاد البلجيكلي، حيث أنّ الأزمات الحكومية المُتكرّرة أفضت إلى حكومات تصريف أعمال لفترات طويلة استمرّت بين العامين 2010 و2011 ما يَزيد عن 514 يوماً، فتطوّر مفهوم نطاق تصريف الأعمال وبات يحقّ للحكومة إتخاذ أي إجراء يحظى بدعمٍ من البرلمان. إن ما تقدّم لا يعني، ولا يجب أن يعني، أنّ نطاق تصريف الأعمال يُصبح مطلق دون قيد أو حدّ، إذ يَقتضي وبحسب الظروف تقدير كل حالة على حدة لتقييم ما إذا كان ينبغي إتخاذ تدبير أم لا.
Pour Francis Delpérée, docteur en droit et ancien doyen de l›Université de Louvain (UCL), « Il ne faut pas penser qu’il y aurait des actes qui en eux-mêmes seraient ou non d’affaires courantes. Il y a au contraire une appréciation à faire dans chaque cas afin de savoir s’il y a lieu ou non de prendre des mesures» فالظروف، سواء أكانت أمنيّة أم إقتصاديّة أم إجتماعيّة وغيرها، هي التي تُحّدد حجم التدابير التي يَنبغي على الحكومة اتّخاذها ونوعها حتى ولو كانت تخرج بطبيعتها عن نطاق الأعمال الجارية العاديّة. فللضرورة أحكام ولا يمكن للحكومة لو مُستقيلة أو مُعتبرة مستقيلة أن تَتملّص من القيام بما يَمليه عليها الواجب الوطني ومصالح المواطنين. (يُراجع: وليد عبلا ــ دراسات في القانون الدستوري اللبناني ــ مجموعة دراسات وأبحاث في القانون والقضاء الدستوري ـــــ ص 439). لا بل وأكثر، فإن تقدير الضرورة في بعض المسائل قد يتبدّل تبعاً للظروف، ففي حالة الفراغ في سدّة الرئاسة وممارسة الحكومة لصلاحيات الرئيس وكالةً، إن إصدار مرسوم منح جنسية للاعب أجنبي لا يعتبر من الأمور الملحة والضرورية والطارئة ولكنها تصبح حاجةً ضروريّة ومُلحّة عندما يرتبط إعطاء هذه الجنسية بتعزيز صفوف فريق المُنتخب اللبناني والإجازة له بالمُشاركة في حدث رياضي عالمي بعد بلوغه نهائيات كأس العالم. وغني عن البيان، بأنه لا يقبل من الحكومة المُستقيلة وبحجة الالتزام بالمعنى الحرفي لعبارة «المعنى الضيّق» أن تنكفئ عن تصريف الأعمال بالمعنى الذي يؤدي إلى تعطيل سير المرافق العامة أو تعريض مصالح المواطنين للخطر. لا بل وأكثر، فإن هذا الإنكفاء ومهما كانت حجته او تحت أي ذريعة كانت، يُشكّل اخلالاً بالواجبات المُترتبة عليها ويعرّض الحكومة، رئيساً وأعضاء، للمُساءلة الدستورية بتهمة الإخلال بالواجبات كما نصت على ذلك صراحةً المادة /70/ من الدستور. أما عن الجهة التي تستقل بتقدير حالة الضرورة فهي دون ريب السلطة الإجرائية التي أناطها الدستور بمجلس الوزراء بحيث رأت هيئة التشريع والاستشارات في وزارة العدل أنه «ينبغي على مجلس الوزراء أن يجتمع بهيئة تصريف الأعمال وفقاً للمادة /64/ من الدستور ليُقرّر توفّر او عدم توفّر حالة الضرورة، في المسائل التي يجوز لحكومة مُستقيلة القيام بها». (يراجع: رأي هيئة التشريع والاستشارات في وزارة العدل، رأي رقم 87/2021 تاريخ 17/2/20221) يبقى أخيراً مسألة تحتمل النقاش وتحتاج لبحث معمق وهي تتعلق برقابة القضاء الإداري على القرارات المتخذة من قبل حكومة تصريف الاعمال ليس للبحث في مشروعيتها بل لتقدير مدى توفر عنصر العجلة المبررة، وفي هذا السياق فعندما تُواجه الحكومة ظروفًا تَستلزم اتّخاذ إجراءات عاجلة وسريعة وتتطلّب أعمالًا طارئة ومُلحّة تَخرج عن نطاق الأعمال العاديّة لتشمل تدابير لا يُمكن مواجهة هذه الظروف دون إتّخاذها، فأن ما تقرره في هذا الخصوص يظلّ خاضعاً لرقابة القضاء الإداري من حيث المشروعية ومدى مطابقته للقانون ولكن هل يمكن له تقدير صفة العجلة في هذه الحالة، وتالياً النظر في ملاءمة (opportunité) القرار الإداري على الرغم من أن تقدير المُلاءمة يَخرج، مبدئياً، عن صلاحيته باعتباره «حارس المشروعية» يُمارس رقابته على تصرّفات الإدارة ومدى مطابقتها للقانون ؟؟؟ (يُراجع:Walline M, Revue de Droit Public,1952,pp.1029 – 1042 et p.1039-1040 ). وهل يمكن مجاراة المجلس في رأيه الاستشاري مثلاً رقم 42 تاريخ 13/12/2022 عندما اعتبر بأن اصدار مرسوم يرمي إلى إعفاء الأدوية المستوردة من الرسوم الجمركية في ظل الظروف الصعبة التي تمر بها البلاد ليس من الأمور الملحة والطارئة ويخرج عن صلاحية حكومة تصريف الاعمال!!؟؟ وللبحث صلة… يتحصّل من كلّ ما تقدّم، أنّ عبارة «الضيّق» لمفهوم تصريف الأعمال هي مُصطلح يَحتمل أن يضيق أو يَتوسّع بحسب المُعطيات ومُجريات الأمور التي تستقل الحكومة المستقيلة بتقديرها، والتي تُحتّم إتّخاذ الإجراءات التي تتطلّبها الحالة القائمة، والكفيلة بتحقيق المصلحة العامة مهما كان لهذه الإجراءات من ذيول ونتائجK لنخلُص بالقول أنّ الضوابط التي تُنظّم مفهوم تصريف الأعمال وترسم حدوده يفترض أن تجد أساسها في مصلحة المواطن، وهي القاعدة المعروفة لدى الرومان بــ : salus populi suprema lex esto، والتي توجب بأن تكون سلامة الشعب القانون الأسمى ما لم يكن للسياسة وأهلها في لبنان رأياً مُخالفاً !!؟؟