كلمة رئيس تيار الكرامة النائب فيصل كرامي في الذكرى السادسة والثلاثين لاستشهاد الرئيس رشيد كرامي:
أيّها اللبنانيون،
يوماً بعد يوم، وسنةً بعد سنة، يُعيد اللبنانيون اكتشاف رشيد كرامي عبر مواقِفه وأقوالِه ومُقاربتِه الرؤيويّة لأقدار هذا الوطن الصغير لبنان، وللتحدّيات الكبرى التي ستشهدُها الأمة العربية في مواجهة الاحتلال الصهيوني كما في مواجهة المؤامرات التي تستهدف وحدة واستقرار الدول العربية.
وها نحن اليوم، وبعد سنوات الخراب أمام مُفترقٍ تاريخيّ يضعُنا كعربٍ وكلبنانيين أمام السؤال الكبير، هل سننجح باختيار الطريق الصحيح وتجنّب الطريق الخاطئ كي نستحقّ هذه الفرصة التاريخية؟!
أيُّها الرشيد،
البشائِرُ الواعدة كثيرة، أهمُّها اليقظةُ العربية الجديدة التي تقودُها المملكة العربية السعودية في واحدٍ من أكبرِ وأهمِّ أدوارِها عبر التاريخ، أولاً عبر وضعِ حدٍّ للنزاع بين العربِ وإيران، وثانياً عبر إعادة لمِّ الشمل العربيّ في قمّةِ جدّة وعودةِ سوريا قلبُ العروبةِ النابِض الى موقعها ودورِها الطبيعيين في العالم العربيّ، وثالثاً عبر العمل الجديّ على تصفير المشاكل والنزاعات بين العرب والانفتاح على العالم الوسيع، هذا العالم الذي لم يعُد يُمكن اختصارُه بالولايات المُتّحدة الأمريكية والغرب والقوى المؤثّرة على قرارات الأمم المُتّحدة ومجلس الأمن الدولي.
هذه البشائِر نحنُ مُؤمِنونَ بأنَّ العربَة ستسيرُ بالرغمِ من كلِّ الكمائنِ والأفخاخِ التي قد تتعرّضُ لها، ولكَ أن تَهْنَأ يا سيّدي حيثُ أنتَ بأنَّ رِهاناتِكَ هيَ التي انتصرَت، وأنَّ دَمكَ الذي سُفِكَ ظُلماً وعُدواناً انتصرَ على قاتِلِكَ الذي لا يزالُ يُكابِرُ ويُنكِرُ ويخوضُ معارِكهُ الفاشِلة، ووصَل بهِ الأمرُ الى المُزايدة علينا في عروبَتِنا فتحوّلَ إلى أضحوكة.
من البشائر الواعِدة أيُّها الرشيد أنّ الدولة المزعومة إسرائيل فقدت أهمّ وظيفةٍ لها بفضلِ صمودِ الشعوب وانتصاراتِ المُقاومة في لبنان وفلسطين، نعم لقد فقدت إسرائيل الوظيفة التي أُنشِأت لتأديَتِها وهي الوظيفة العسكريّة، وها نحنُ نراها تبني جدران العزل العنصريّ وتُحاصِرُ نفسَها بنفسِها وتتخبّطُ في شتّى أنواعِ الأزماتِ.
وهذه البشائرِ ايضاً تتقاطع بالنسبة الينا مع الحتميّةَ التاريخيّةَ والجغرافية وهي زوالُ إسرائيل حتماً، ولكنّ فُقدان هذه العِصابة الحاكمة في اسرائيل لوظيفَتِها العدوانية العسكرية سيجعلُها تنتقِلُ الى الوظيفة العدوانية الأمنية في لبنان وفي كل الدول العربية، سواء عبرَ إشعالِ الفِتن المتنوعة او عبرَ الاغتيالات او عبر دفع ادواتها الى افتعال ما يشبه الحروب الاهلية المتهورة. وهنا على اللبنانيين ان يعوا مخاطر الايام والاسابيع المقبلة، فعصابة بن غوريون ورفاقه المجرمين القتلة لن يستسلموا بسهولة، وسيحاولو احراق لبنان.
من البشائر التي لطالما حذَّرتَ منها أيُّها الرشيد خلالَ حياتِكَ أنّ النظام اللبنانيّ سيصل الى حائطهِ المسدود. وأقصُد به نِظام التكاذُب، والنظام الطائفيّ ونظامَ الفسادِ ونظامُ النعامةِ التي تُخَبِّئُ رأسَها في الرمالِ وتدّعي تارةً الحياد وتارةً أخرى النأيَ بالنفس، وكذلك نظامَ الإرتهانِ الى الخارج والإيمانِ المُطلق الأحمق بالحمايات الأجنبيّة. وكلّ ذلك يدفعُنا للتساؤل، من يحاصر لبنان اليوم فعلياً؟
والجواب لا يحتاج للكثير من التفسير، فاللبنانيون هم من يحاصرون انفسهم عبر مخالفة الدستور مراراً وتكراراً وعدم تطبيق القوانين والاستخفاف والتحايل في ممارسة الديمقراطية.
اللبنانيون هم من يحاصرون انفسهم عبر الاستيلاء على ودائعهم في المصارف في ابشع تواطؤ فاضح بين الدولة التي اقترضت هذه الودائع وبين القطاع المصرفي الذي حقق ارباحاً خيالية عبر الفوائد وكلفة الدين على مدى سنوات.
اللبنانيون يحاصرون انفسهم عبر العناد والمكابرة واجهاض كل المحاولات لانتخاب رئيس للجمهورية، والاستمرار في هذا الفراغ المرعب بينما الناس تجوع وتهاجر والاستقرار الاجتماعي الهشّ يكاد يصل الى حدّ الانفجار الذي يقضي على الاخضر واليابس.
اللبنانيون هم من يحاصرون انفسهم عندما يتحوّل حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الى خط احمر محلي ودولي في حين ان رجلاً في هذا المنصب الخطير تتوجّه له اتهامات في القضاء اللبناني والقضاء الفرنسي والقضاء الالماني من ابسط البديهيات ان يتوقف عن مباشرة عمله وصلاحياته بانتظار صدور احكام القضاء.
ايها الرشيد،
المفترق التاريخي واضحٌ وجلي، فهناك طريقان لا ثالث لهما، الطريق الى الهاوية، والطريق الى المستقبل. وعلينا ان نختار، وفي الحالين سنحصد نتائج اختيارنا.
إذا أرادَ اللبنانيونَ إبقاءَ لبنان كما رسَمَتهُ فرنسا وأعلنَهُ الجِنرال غورو عام ١٩٢٠، فإنّ عليهم أن يَكُفّوا عنِ الخُزعبَلاتِ والعنتَريّاتِ والرهاناتِ القاتِلة، وأن يَذهبوا فوراً الى حِوارٍ وطنيٍّ جامِع يُنتِجُ تفاهُماتٍ سَريعةٍ تَقودُنا لانتخابِ رئيسٍ جديدٍ للجمهوريّة وإعادةِ تشكيلِ مؤسّساتِ الدولة والعملِ ليلَ نهار لإنجازِ إصلاحاتٍ جذريّةٍ هي جَوهَرُ خُطّةِ التعافي الإقتصادي والمالي والإجتماعي.
وإنّي أقولُ لكلِّ اللبنانيين، وبمُنتهِى الوضوحِ والصراحة، بأنّ لبنان وطنٌ تاريخيّ وحقيقيّ ونهائيّ إذا آمنتُم وصدّقتُم بأنّهُ كذلِك، وإلّا فما أهوَنَ أن يختَفيَ لبنان عن خريطةِ العالمِ الذي يتشكّلُ اليوم، وأوّلُ مساراتِ اختِفائه تكونُ عبرَ الفيدرالية أو الكونفيدراليّة أو حتّى بما يُسمّى اليومَ باللّامركزيّة المُوسّعة الإداريّةِ والماليّة، ومِنَ المُفيدِ أن أُذكِّرَ هُنا بأنّ اتفاقَ الطائفِ ينُصُّ على اللّامركزيةِ الإداريّةِ الموَسّعة، وأنّ إضافَة كلمة “الماليّة” هي إضافةٌ مُريبَةٌ وخطيرَة وأنتُم تَعلمونَ ما للكلمةِ من تأثيرٍ عبرَ تاريخِ الإنسانيّة، فهُناكَ كلمةٌ تُحيي وهناكَ كلمةٌ تقتُل!
ومن واجبي ايها الرشيد ان ارفع لك تقريري البسيط عن واقع طرابلس، لاقول لك ان مدينتك التي تعيش زمنها العصيب، وان اهلك الذين يكابدون كل المرارات لانتزاع الحد الادنى من الحياة الكريمة. مدينتك واهلك يا شهيدي لم ولن يفقدا الامل، ولم ولن يخسرا القيم الاخلاقية، ولم ولن يتلاعب احد بهما بعد اليوم في مشاريع تفتك بالدماء والارزاق.
واؤكد لك ان مدينتك واهلك لن يكونا في لبنان الآتي والناهض باذن الله ملحقاً ثانوياً في الوطن، ولن يرتضيا الحرمان والاهمال المتعمدين، ولن يكونا سوى الرقم الصعب كما عهدتهما في المعادلة الوطنية والسياسية.
والاهم، ان استشهادك سيبقى تلك العلامة الفارقة في تاريخ طرابلس، وسيكون دائما محطة يمتزج فيها الحزن بالفخر، ونحن، اهلك وعائلتك وتيارك السياسي والوطني، نجدد العهد باننا لم نسامح ولن ننسى، مع التأكيد بأننا لسنا طلاب انتقام بل طلاب عدالة.
يا شهيد لبنان الكبير.
لقد اختار الاخوة والرفاق في تيار الكرامة ان يكون عنوان الذكرى لهذا العام: ذكرى اغتيال دولة.
واني الان اقول، اريد وسأسعى لان تكون هذه الذكرى العام المقبل ذكرى بناء دولة.