صليبا لـ «الشرق»: أي عمل على الرواتب في لبنان يجب أن ينطلق من قاعدة علمية لا شعبوية
كتبت ريتا شمعون
93 مؤسسة عامة تتبع 22 وزارة، إضافة الى المستشفيات الحكومية والجامعة اللبنانية، ويعمل في القطاع العام ما يقارب 332 ألف موظف، تشكل رواتبهم نحو ثلث موازنة الدولة، تعيش اليوم شللا تاما بسبب إستمرار الإضراب، على رغم الزيادات التي عملت حكومة تصريف الأعمال عليها مراراً لكنها لم تنجح لأن المعيار العلمي ما زال مفقودا تآكلت وكأنها لم تكن كان لإشكالية زيادة الرواتب غير العلمية للأجور في العام ٢٠١٧، الأثر الاكبر في تسهيل الانهيار المالي للبلد. فقد قامت الدولة باعتماد زيادة كبيرة لرواتب موظفي القطاع العام بناءً على نظام ومعايير ضعيفة علمياً، ويمكن القول انها خاطئة. وقد ادت هذه الزيادات الى تحميل الدولة والاقتصاد أعباء مالية كبيرة، لم تتمكن خزينة الدولة ونظام جبايتها من تحمل وزرها. اما من ناحية أخرى، فقد ساهم نمط العيش غير المتوازن لجزء كبير من الشعب اللبناني الى صب الزيت على النار، ما ادى الى اشتعال الازمة المعيشية، وهذا ما اثقل كاهل المواطن اكثر فأكثر، في دولةٍ اعتادت على تبني قرارات ادارية ومالية سيئة ترتقي الى حد الانتحار. من هنا، يقدم الباحث والكاتب في مجال الإقتصاد الإجتماعي شارل صليبا في حديث لجريدة «الشرق» شرحا علميا مفصلا عن الرواتب وكيفية هندستها للوصول الى توفير اجر عادل ومجتمع متزن واقتصاد متوازن. تعتمد هندسة الرواتب على ثلاثة قواعد اساسية يتم استخراج الاجر الوظيفي منها:
- قيمة الوظيفة – 2. قيمة الموظف والمنافسة في سوق العمل- 3. الحد الأدنى للمعيشة
1- قيمة الوظيفة: تعتبر الوظائف والرواتب في علم الموارد البشرية من الهندسات الرئيسية التي تؤثر مباشرة في نجاح اي مؤسسة. فالوظائف تتألف من مهام متناسقة تجتمع تحت عائلة محددة من الاختصاصات، مثلاً عائلة الوظائف المالية وتشمل وظيفة مدير مالي ومدقق حسابات وغيرها. وفي الإطار ذاته، فإن لكل وظيفة وزنا خاصا بها، يحدد قيمتها او اهميتها بالنسبة للمؤسسة. فهناك وظائف وزنها خفيف، ووظائف وزنها ثقيل. ويُستَخرج وزن الوظيفة بناء على عوامل تعويض مادية Compensable Factors، تعكس قوة تأثير هذه الوظيفة على نجاح المؤسسة:
١. عامل اتخاذ القرارات، اي ما هي القرارات التي يمكن لساكن الوظيفة ان يتخذها. فكل ما زادت أهمية القرارات التي تمتلكها الوظيفة كل ما زاد وزنها.
٢. عامل التحكم بالموظفين، اي السلطة المتوفرة للوظيفة لإدارة الموظفين وتحديد مهامهم ومسؤولياتهم. فكلما زادت صلاحية التحكم بالموظفين، كل ما زاد وزن الوظيفة.
٣. عامل الائتمان على الموجودات، حيث انه كل ما كبر حجم الموجودات المؤتمنة عليها هذه الوظيفة كل ما زاد وزن الوظيفة، وهذا الامر يشمل ايضاً الائتمان على المال.
٤. عامل العلم والخبرة، وهو درجة التحصيل العلمي وسنوات الخبرة المطلوبة للقيام بهذه الوظيفة بشكل ممتاز. وهنا أيضاً، كلما زاد مستوى التحصيل العلمي والخبرة المطلوبين للوظيفة، كل ما زاد وزنها.
تجدر الاشارة هنا الى انه على ضوء تقييم الوظائف يتم ترتيبها بحسب أوزانها للحصول على منظومة هرمية الوظائف التي تكون المرجع الاساسي للمؤسسة في ما يتعلق بالرواتب.
بمعنى آخر الرواتب يحددهما العلم وطبيعة الوظيفة، وليس مواصفات الموظف الذي يشغلها ولا رأي رب العمل. هكذا نكون قد اوضحنا الجانب الاول من موضوع الرواتب، والذي يمكن ان يتحول الى فخ تقع به الدولة وكذلك المؤسسات الخاصة التي لا تقيّم الوظائف وتقوم بدل ذلك بدفع الرواتب بحسب معايير غير علمية.
٢. قيمة الموظف والمنافسة في سوق العمل: العامل الثاني الذي يؤثر في الرواتب – بالإضافة الى وزن الوظيفة – هو قيمة الموظف بالنسبة للمؤسسة والمنافسة الموجودة في سوق العمل.
اولا، الموظفون المتوفرون بكثرة لنوع محدد من الوظائف، مثل موظف الاستقبال، او موظف العمليات في فروع المصارف. ففي هذه الحالة لا تكون قيمة الموظف مرتفعة، لأنه يوجد الكثير من المرشحين لهذه الوظيفة في سوق العمل ولا يوجد منافسة كبيرة. لذلك اذا فقدت المؤسسة احد هؤلاء، فإنه يمكنها استبداله بسهولة نسبية.
ثانياُ، الموظف النادر من ناحية الاختصاص والخبرة، مثل مدقق تكنولوجيا معلومات او مبرمج ذكاء اصطناعي. ففي هذه الحالة يمكن للراتب ان يكون مرتفعاً، ليس لوزن الوظيفة فقط، بل لندرة توفر مرشحين لديهم المؤهلات المطلوبة لهذه الوظيفة في سوق العمل.
ثالثاً، الموظف الذي يمتلك ذاكرة المؤسسة. أي الموظف الذي يعرف تاريخ المؤسسة مثل تاريخ الابنية، والموجودات، والموردين، والزبائن، والعقود الطويلة الأمد، والإشكاليات وغيرها من ذاكرة المؤسسة التي لا يعرفها سواه. وهنا أيضاً ممكن ان يكون الراتب مرتفعاً ليس لقيمة الوظيفة بل لقيمة المعلومات والذاكرة التي يحملها هذا الموظف بالذات دون غيره.
وأضاف صليبا، تتأثر الرواتب أيضاً بالحد الادنى للمعيشة في البلد الذي توجد فيه الوظيفة. فمن الناحية القانونية والتعاقدية، تحدد الدولة الحد الأدنى للأجور بالاعتماد على كلفة السلة الاستهلاكية، بالإضافة الى عوامل اخرى تتعلق بهذا البلد وطبيعة الحياة فيه. أما في لبنان لا يمكن الاعتماد على السلة الاستهلاكية فقط لتحديد الحد الادنى للأجور (كما تفعل الدول المتقدمة)، بل ايضا على كلفة المواصلات (لغياب المواصلات العامة) وعلى كلفة الطبابة (لغياب التأمين الصحي الشامل)، وعلى كلفة المدارس (لغياب التعليم الرسمي الكافي)، وبعض العوامل الأخرى. ولتفادي الوقوع بالأخطاء السابقة التي وقعت فيها الدولة اللبنانية ، يشدّد صليبا على ضرورة إعادة النظر بالرواتب في لبنان مع اخذ وضع الليرة اليوم، وقيمتها الحقيقية بالنسبة للدولار. بالإضافة الى ذلك، يجب على المؤسسات – او بالأحرى الجمعيات المتخصصة مثل النقابات المهنية، الإتحاد العمالي العام وغرف التجارة والصناعة – المساهمة في تحديد الحد الادنى الجديد للأجور مع رصد درجة استقرار السوق. فالحد الادنى يجب ان يكون واقعياً وليس مبالغ فيه لأي طرف من الأطراف، لان الهدف هنا هو استدامة العمل والإنتاج وليس قصم ظهر الموظف او رب العمل. في المقابل، على الموظف ان يعلم ان وظيفته تهدف الى توفير نمط حياة اساسي له ولعائلته ونقول اساسي لان الوظيفة تعني ان الدخل محدود، اي انه بغض النظر عن العمل فإن مدخول الوظيفة ثابت. وهذا يعني ايضاً ان الموظف يجب ان يُنظّم حياته بناءً على مدخوله، وليس العكس؛ فمن المستحيل تنظيم الراتب بناءً على نمط الحياة. بمعنى آخر، لا يمكن للموظف تبني نمط حياة موسع بدخل محدود، لأنه اما سيضطر للاستدانة، او انه سيفقد الحافز للعمل وبالتالي يخسر وظيفته. وللتذكير فإن الكثير من اصحاب الوظائف الذين اتبعوا نمط حياة موسعا – وربما اكبر من قدرتهم – قبل الازمة في ٢٠١٩، ما زالوا غير قادرين على تقبل عدم قدرتهم الاستمرار بنمط العيش ذاته. هذا الامر له وقعه المؤلم وتأثيره النفسي، خصوصا مع غياب التسهيلات المصرفية غير المضبوطة التي سمحت للكثير من الموظفين، من خلال الاستدانة السهلة، تبني نمط حياة اكبر بكثير من قدرة دخلهم المحدود على تحمله.
ويختم صليبا قائلاً: إن أي عمل على الرواتب في لبنان اليوم، يجب ان ينطلق من قاعدة علمية وثوابت موضوعية وغير شعبوية. وهذا الامر ينطبق على القطاعين العام والخاص.