بركات لـ «الشرق»: من أجل التطبيق السريع للإصلاحات العقارية للحدّ من الاقتصاد النقدي يجب وضع خطة للتعافي الاقتصادي المصرفي
كتبت ريتا شمعون
بادر مصرف لبنان بحدود ما يسمح له قانون النقد والتسليف الى اتخاذ قرارات عدة تصب في مصلحة حماية ما تبقى من الليرة اللبنانية من جهة وتعزيز قدرة الإقتصاد بما أمكن لتحريك الجمود القاتل الذي يعتريه من جهة أخرى ، آخر هذه القرارات تعميم جديد صدر في 19 نيسان 2023 حمل الرقم 165 للحدّ من مسألة الاقتصاد النقدي المتنامي في لبنان وتحدياته الذي يشكل معضلة أساسية في يومنا هذا لما تحمله من شوائب وعواقب بشكل عام في هذا الإطار، يجيب الدكتور مروان بركات كبير الإقتصاديين ورئيس قسم الأبحاث لدى بنك عودة على تساؤلات جريدة «الشرق» ويشرح قائلاً: فقد بلغ حجم الاقتصاد النقدي حسب تقديرات البنك الدولي الصادرة مؤخراً 9.9 مليارات دولار في العام 2022، ما يشكّل 46% من الناتج المحلّي الإجمالي، أي ما يقارب نصف حجم الاقتصاد، علماً ان الناتج المحلي الإجمالي يقدّر من قبل البنك الدولي بما يوازي 22 مليار دولار. وعندما نقول ان الاقتصاد النقدي يشكل 46% من الناتج في لبنان، هذه نسبة شديدة الارتفاع بالمعايير الاقليمية والعالمية. وأضاف بركات، أن البنك الدولي ليس فقط قلق على حجم الاقتصاد النقدي الذي وصل اليه البلد انما ايضاً على الوتيرة التي يتزايد فيها الاقتصاد النقدي. ففي العام 2020 كان الاقتصاد النقدي يقدر بـ4.5 مليارات دولار ليرتفع في العام 2021 الى 6 مليارات دولار وليصل الى 10 مليارات دولار في العام 2022، اي زيادات كبيرة علما ان الاقتصاد الكلي انكمش حسب تقديرات البنك، ما يعني أن المقام (Denominator) أي حجم الاقتصاد الكلي انكمش بينما تزايد (Numerator)أو حجم الاقتصاد النقدي. وبالتالي فإن نسبة الاقتصاد النقدي زادت من 14% في 2020 الى 26%
في2021 الى46% في2022. لافتا الى أن الوتيرة التي ينمو فيها حجم الاقتصاد النقدي بالمقارنة مع الحجم الكلي للاقتصاد هي مصدر للقلق للمراقبين المحليين والدوليين. وعن مخاطر الإقتصاد النقدي قال بركات: نحن نعتقد ان تصاعد الاقتصاد النقدي يحد من الوساطة المالية بالبلد ونحن على يقين ان ما يضعف الوساطة المالية ويكبر الاقتصاد النقدي يكون ذلك على حساب النمو وعلى حساب الدخل الفردي وبالتالي على حساب خلق فرص العمل. كما وان كون الاقتصاد النقدي يخفي مصادر التمويل فهو بالتالي يحفز الاعمال غير المشروعة وبالتالي تبييض الأموال وما الى هنالك. وكلما يكبر حجم الاقتصاد النقدي يزيد نشاط الاقتصاد غير الرسمي وبالتالي يزيد حجم غسيل الاموال إضافة الى ان التهرب الضريبي يتفاقم.
يجدر الذكر انه لما كانت الوساطة المالية أساس التعامل في لبنان قبيل الازمة، سجلت نسب نمو فعلية بالاقتصاد جيدة ومؤاتية وبالتالي انتقل لبنان الى الشريحة العليا من البلدان ذات الدخل المتوسط في العالم. أما عندما ضعف الاقتصاد وضعفت الوساطة المالية أصبح لبنان ضمن الشريحة الدنيا بين البلدان المتوسطة الدخل وفق آخر التصنيفات. أضف الى ذلك انه لما تزيد نسبة الاقتصاد النقدي في البلد تضعف فعالية السياسات النقدية والمالية والسياسات الاقتصادية المعتمدة وبالتالي تصبح قدرتها على تحقيق النتائج المرجوة منها ضعيفة وواهنة. كما وان النشاط الاقتصادي في لبنان أصبح مبني بشكل ملحوظ على عملة غير عملة البلد ما يزيد من المخاطر الاقتصادية والنقدية في الأفق.
تابع بركات، من جراء ذلك كله تبرز أهمية إقرار وبأسرع وقت خطة تعافي اقتصادية مصرفية تعيد التوازن الى القطاع المالي بالبلد من اجل ان يستعيد القطاع المالي دوره كوساطة مالية أساسية تخلق وتولد قيما مضافة مؤاتية بالاقتصاد الوطني وتسنح النهوض المرجو في البلاد بشكل عام. أما كيف يحتسب الاقتصاد النقدي بالدولار خلال سنة معينة؟ وفق بركات، هو مجموع خلق النقد المتداول بالليرة الذي يتحول على دولار على سعر الصرف السوق السوداء، ويضاف الى انخفاض الاحتياطي لمصرف لبنان (خارج الدعم) يعني ضخ دولارات بالسوق، والى السحوبات من المصارف على تعميم 158 وحسم الشيكات مقابل كاش، والى تحويلات العاملين بالخارج والتي اغلبها نقدية، والى النفقات السياحية النقدية للسياح، والى المساعدات الإنسانية للنازحين وللبنانيين ذوي الدخل المحدود عن طريق المؤسسات الدولية. ويطرح من هذا المجموع التحويلات النقدية الى الخارج. يجدر الذكر ان هذا المجموع يشمل التدفقات النقدية خلال فترة معينة وليس مجمل النقد في تاريخ معين. في هذا السياق، أصدر المصرف المركزي مؤخراً التعميم 165 الهادف الى التخفيف من مستوى اقتصاد الكاش والذي يشكل بيئة حاضنة لتبييض الأموال. مؤكدا أن التعميم 165 الذي بدأ تنفيذه منذ أيام حول فتح الحسابات المصرفية الفريش بالليرة والدولار يتعلق بتسوية التحاويل كما تسوية مقاصة الشيكات التي يتم تداولهما ايضاً بالفريش، علماً ان تنظيمهما يجب ان يساعد على تسهيل العمليات التجارية، وعقود الاعمال بشكل عام.
بالإضافة الى التعميم 69 المعدل اخيراً والذي سمح بترخيص المحافظ الالكترونية للمساهمة في سد بعض الثغرات في حجم الاقتصاد النقدي. وتحدث بركات، عن أهمية دور مجموعة العمل الدولية FATF التي لم تضع لبنان على اللائحة الرمادية بل اعطت فترة سماح لمدة سنة مشروطة بتنفيذ الإصلاحات المالية والنقدية والمصرفية الضرورية. ويأتي ذلك في ظل التحديات التي يواجهها لبنان حالياً ووسط المساعي الحثيثة لمعالجة أزماته المتعددة الأوجه. وأشار إلى أن القائمة الرمادية المستخدمة من قبل FAFT تتضمن لائحة بالبلدان التي لديها مواطن ضعف في تنفيذ متطلبات مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب (AML/CFT) . إنّ إدراج أي بلد على هذه القائمة يعني أن الإجراءات التي يتبعها في مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب لا تتفق مع المعايير الدولية، ما يترك تداعيات بالغة الأهمية على نظامه المالي.
من هنا، لدى قيام مجموعة التعاون الدولي (ICRG) بمراجعة الإجراءات التي يتبعها كل بلد في مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، يخضع البلد المعني للرقابة لمدة عام، تبذل خلاله جهود بالتعاون مع FATF أو الهيئة الإقليمية العاملة على غرار FATF (FSRB) من أجل معالجة مواطن الضعف في تطبيق نظم مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. ويأتي ذلك قبل المراجعة الرسمية التي تقوم بها مجموعة العمل المالي FATF وقبل الإعلان عن إدراج البلاد على القائمة الرمادية.
أما في حال إدراج لبنان على القائمة الرمادية يؤكد بركات، فإن اقتصاد لبنان ونظامه المصرفي يتأثر ويضعف أكثر. وينتج عن ذلك ارتفاع في كلفة المعاملات الدولية، كما يؤدي إلى الحدّ من قدرة البلد على الوصول إلى الأسواق المالية العالمية، إضافةً إلى الحؤول دون دخول الاستثمار الأجنبي إليه. إلا أنه بعد تقييم وضع لبنان، لاحظت FATF حصول تطورات إيجابية في سبعة مجالات من أصل تسعة، بينما يتطلب المجالان المتبقيان مزيداً من التدقيق، الأمر الذي دفع FATF إلى اتخاذ القرار بمنح لبنان فترة سماح لمدة سنة، على امل التطبيق السريع للإصلاحات المطلوبة للحد من الاقتصاد النقدي.