التنظيم القانوني للمثلية الجنسية:ديموقراطية المجتمع المدني أم متطلبات الصحة والسلامة الاجتماعية؟
الدكتورة مريم عبد الله اسحق.
تمهيد:
توسم دول معينة بأنها دول ديموقراطية، بينما لا تتمتع دول أخرى بهذه الصفة، والعبرة في تصنيف الدول إلى دول ديموقراطية ودول غير ديموقراطية تتعلق في النظام السياسي والاجتماعي القائم في هذه الدول. عملياً، يؤسس النظام الديموقراطي على صيانة حرية الأفراد في المجتمع، وبالتالي، فإن أية تشريعات تصدر ضمن هذا المجتمع لا بد وأن تكرّس الحريات الفردية وتضمن الحفاظ على الحقوق الأساسية للإنسان بهدف صيانة النظام العام وتحقيق تنمية اجتماعية واقتصادية. فقيمة الديموقراطية بالأصل مرتبطة بالتنظيم السياسي بشكل أساسي والانتقال السلمي للسلطة في الدولة، ولكنها أيضاً مرتبطة بالتنظيم الاجتماعي أيضاً، فالمجتمع هو مصدر كل القيم، وبدون تنظيم المجتمع لا يمكن تحقيق الديموقراطية، ولا يمكن أن تتحقق بقية القيم مثل سيادة القانون والعدالة والمساواة.
العدالة الاجتماعية كقيمة مرتبطة بالديموقراطية أو ناتجة عنها، تفترض أن يتم احترام جميع المعتقدات الاجتماعية والدينية وصيانة حرية الرأي والتعبير، شريطة أن تقف حرية الأفراد في التعبير عن معتقداتهم وممارستها عند حد عدم الإضرار بالحريات الخاصة بالآخرين، وعدم تسببها بخطر على السلامة والأمن. وهنا تأتي وظيفة المشرع لوضع الحدود الفاصلة بين الحرية والتعدي من خلال التنظيم القانوني.
من منظور التوازن بين الحفاظ على الديموقراطية والحفاظ على السلامة والأمن العام، تحلل هذه الورقة البحثية ظاهرة المثلية الجنسية التي أصبحت إشكالية اجتماعية وظاهرة من الظواهر التي تحتاج لتنظيم قانوني واضح يضع الحدود الفاصلة بين الحرية والمساواة وبين الحفاظ على النظام العام وقواعد السلامة والأمن. ضمن هذا التحليل سنناقش ظاهرة المثلية الجنسية من زاوية وجود تنظيم قانوني خاص بها في لبنان وفق متطلبات وجود هذا التنظيم.
ما هو انعكاس الإشكالية في الواقع الاجتماعي؟
تنقسم الآراء حول هذه الظاهرة بين مؤيد ومعارض، ولكل رأي أسانيده وأدلته في الرفض أو في التأييد. وهذه الأسانيد ترتبط بشكل أساسي بالخلفية الثقافية أو الفكرية التي ينطلق منها الشخص لتأييد المثلية الجنسية أو رفضها. على سبيل المثال، يرفض المتدنيون هذه الظاهرة رفضاً قاطعاً ويعتبرونها تعدياً على فطرة الله في البشرية. بينما يؤيدها من يستند إلى المعتقدات الفكرية الخاصة بالمجتمع المدني والحفاظ على الحقوق الأساسية الخاصة بالإنسان. هذا التعارض في الآراء قد يخلق مشاكل كثيرة قد تصل إلى حد إثارة الشغب أو ارتكاب جرائم العنف والقتل، وبالتالي، التحليل الموضوعي لهذه الظاهرة لا يجب أن يتعلق بالرفض أو بالتأييد، فالظاهرة موجودة بالفعل، وما علينا إلا أن نضبطها من الناحية القانونية بالشكل الذي ينظمها ويحددها. وهذا التنظيم القانوني يجب ألا يعكس تحيّزاً تجاه هذه الظاهرة، بل أن يقوم بضبطها انطلاقاً من مبدأ الحفاظ على التوازن بين متطلبات السلامة والأمن ومتطلبات حماية الحرية الشخصية.
إشكالية التعامل مع ظاهرة المثلية الجنسية في القانون الوطني اللبناني:
ليست الإشكالية في التعامل الاجتماعي مع هذه الظاهرة، بل بالتعامل القانوني أيضاً، حيث يعتبر المشرع الجزائي اللبناني ضمن المادة 534 من قانون العقوبات اللبناني أن كل مجامعة خلافاً للطبيعة هي جرم جزائي معاقب عليه بالحبس حتى سنة واحدة. النص القانوني واضح، ولكن هنالك عدم اتساق في القرارات القضائية بخصوص الممارسة الفعلية للعلاقة الجسدية بين المثليين على مستوى المحاكم الجزائية اللبنانية. في العام 2010 ذهبت محكمة الجنايات في بيروت إلى تطبيق نص المادة 534 من قانون العقوبات مع العلم أنها تتعارض مع قواعد المعاهدات الدولية، حيث أنها ملزمة بتطبيق هذا النص طالما أن المشرع اللبناني لم يقم بتغييره ليتسق مع التزامات لبنان بموجب تلك المعاهدات.
بينما في العام 2018، أصدرت محكمة استئناف الجنح في بيروت برئاسة القاضية رولا الحسيني والمستشارين كارلا شواح وربيع معلوف قراراً بإبطال التعقبات بحق ثلاثة شبان مدعى عليهم بإقامة علاقات جنسية مثلية. القاضي معلوف ذهب لعدم تجريم المثلية الجنسية في لبنان انطلاقاً من سمو المعاهدات الدولية التي يعتبر لبنان طرفاً بها والتي تنص على الحرية في اختيار الميول الجنسية ومنها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية والعهد الدولي لحقوق الإنسان وبقية المعاهدات الدولية ذات الصلة.
ما هو الحل إذاً؟ بمراجعة الاتجاه الفقهي الفرنسي، سنجد موقفاً معمولاً به بالنسبة للتعارض بين القواعد القانونية الوطنية والقواعد القانونية الدولية في ظل مبدأ سمو المعاهدات الدولية على قواعد القانون الوطني، وهذا الموقف يتضمن عدم تطبيق المعاهدات الدولية في حال تعارضها مع النصوص القانونية الوطنية طالما أن المشرع لم يقم بتغيير قواعد تشريعه الوطني لتتلاءم مع التزاماته بموجب المعاهدات الدولية. وهنا سيكون بإمكان المحاكم الجزائية اللبنانية تطبيق نص المادة 534 من قانون العقوبات طالما أنها لم تتغير بعد من قبل المشرع اللبناني. ولكن ما سبق يظهر وجود تناقض قانوني بالتعاطي مع هذه المسألة.
تحليل الظاهرة من منظور النظام العام اللبناني:
هنالك نقطة جوهرية يجب الانتباه إليها. المادة 534 تجرم المجامعة الجسدية خلافاً للطبيعة، وهذا يختلف عن مجرد وجود ميول جنسية مثلية. ما يعني أن الحديث عن مجرد وجود ميول جنسية لا يخضع للتجريم. هنا يمكن الاستناد إلى مسألة الإطار القانوني الوطني والدولي الناظم للحقوق الخاصة بالإنسان، وعليه لا يمكن اعتقال أي شخص أو اضطهاده نتيجة وجود ميول جنسية مثلية لديه، فهذا الأمر مخالف للدستور والقانون والمعاهدات الدولية الناظمة للحقوق الأساسية للإنسان. ولكن هل تتوقف المسألة عند حد المادة 534 من قانون العقوبات اللبناني؟
كلا، هنالك مجموعة من القواعد القانونية ضمن قانون العقوبات التي تتعلق بمفهوم النظام العام، والنظام العام مرتبط بمجموعة القواعد المتصلة بثقافة المجتمع وعاداته وتقاليده، فكل تصرف أو اتفاق أو سلوك مخالف لهذه القواعد يعتبر باطلاً. وفي لبنان، تعتبر القواعد القانونية المستندة إلى تعاليم دينية جزءاً أساسياً من النظام العام، ولا يجوز مخالفتها. ويمكن ملاحظة وجود مجموعة كبيرة من النصوص القانونية التي تستند إلى النظام العام في مختلف الأطر القانونية، وأولها القانون الجزائي. وبمراجعة قانون العقوبات، سنجد مجموعة قواعد تتصل بموضوع المثلية الجنسية مثل الحفاظ على الآداب العامة والأخلاق العامة وتجريم الحض على الفجور. ويستند الرأي المعارض للمثلية الجنسية إلى هذه القواعد في معارضته لها.
في العام 2021، أصدرت الأمم المتحدة بياناً صحفياً في لبنان ضمن اليوم الدولي لمناهضة أفعال الكراهية ضد المثلية الجنسية وتعدد الخصائص الجنسية والعبور الجندري وازدواجية الميل الجنسي، ودعت الأمم المتحدة إلى استمرار دعم جهود المناصرة لإلغاء المواد 534 و521 و526 و531 و532 و533 من قانون العقوبات اللبناني التي يتم استخدامها لتجريم العلاقات المثلية والتي تميز بحق الأفراد ذوي التوجهات والهويات الجندرية المتنوعة، مع العلم أن هذه المواد لا تتضمن الإشارة الصريحة إلى مسألة المثلية الجنسية، بل أنها تتسم بالعمومية، أي أنها تجرم كل فعل يخالف الأخلاق والآداب العامة ويحض على الفجور.
مما سبق، يظهر لدينا فجوة كبيرة في مسألة التعامل مع هذه الظاهرة، وما يعمق هذه الفجوة هو الانقسام القانوني والانقسام الاجتماعي. وهنا لا بد من وجود حلول عملية لإيجاد تنظيم قانوني موحد يحافظ على التوازن بين الحقوق والواجبات. ولكن قبل إنشاء تنظيم قانوني لهذه الظاهرة لا بد من الإشارة إلى مسألة مهمة بصددها. حيث يعتبر الخلل الهرموني لدى الإنسان سبباً أساسياً يؤدي لتحوّل في ميوله الجنسية، وهذا الأمر يشكل حالة مرضية تجعل من هويته الجندرية مغايرة. ولكن ليست كل حالات المثلية الجنسية ناجمة عن الخلل الهرموني، بل تعلب العوامل السلوكية والنفسية دوراً كبيراً في هذا الشأن، بحيث تؤثر العادات النمطية السلوكية على الإنسان وتؤدي لتغير في ميوله الجنسية مع الوقت. هذا الأمر يمكن التثبت منه بسهولة من خلال الفحوص الطبية التي تثبت الحالة الفيزيولوجية للشخص، وهذا ما يفسر ضرورة العمليات الجراحية المتعلقة بتصحيح الجنس وليس تبديله. فالأولى مبررة طبياً، بينما الثانية لا يوجد ما يبررها، ويمكن من وجهة نظرنا معالجتها من خلال المتابعة الطبية النفسية.
ما هو أبعد من مسألة حرية التعبير عن الرأي ومسألة الأخلاق والآداب العامة:
التبرع بالدم من قبل المثليين الجنسيين:
في العام 2012 قامت وزيرة الشؤون الاجتماعية والصحة الفرنسية برفع الحظر المفروض على التبرع بالدم من قبل الرجال الذين يمارسون العلاقة الجنسية مع رجال مع الحفاظ المطلق على معايير السلامة بالنسبة لمن يتلقون هذا الدم. وهذا الأمر اعتبره البعض ممارسة للديموقراطية الصحية بين الفرنسيين. ولكن هذا التوجه تلقى معارضة طبية هدفها الوصول إلى معايير وقواعد عامة للسلامة الصحية الاجتماعية، خاصة وأن ممارسة هذا النوع من العلاقات من شأنه أن يؤدي إلى مرض نقص المناعة الناتج عن فيروس الإيدز بشكل أكبر مما لو كانت العلاقة الجنسية بين رجل وامرأة.
في لبنان، تتبع المؤسسات الطبية التي تعمل في القطاع الصحي قواعد وإرشادات سلامة مماثلة، ولكن قد يكون من الصعب التعرّف على الهوية الجندرية للمتبرع بالدم قبل عملية نقل الدم منه لشخص آخر. هذا الأمر مرتبط بالثقافة الاجتماعية السائدة في لبنان ومحاولة إخفاء الميول الجنسية للمثليين نتيجة الخوف من الملامة الاجتماعية أو من الاضطهاد. لذلك لن يكون لدى المثليين قدرة على الإفصاح عن هوياتهم الجندرية أو الإفصاح عن ممارستهم لعلاقات جنسية مثلية، وهذا ما سيسبب إشكاليات كبيرة على المستوى الصحي.
المثلية الجنسية والتأثير عبر مواقع التواصل الاجتماعي:
هل سأل البعض أنفسهم لماذا تنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي ضمن مجتمعاتنا حسابات الكترونية لأشخاص مثليين يمارسون فيها التعبير عن هوياتهم الجندرية بشكل مبالغ فيه؟ يحاول الكثير من أصحاب الميول الجنسية المثلية التعبير عن ميولهم هذه عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فقد خلق هذا العالم الافتراضي لهؤلاء الأشخاص ولغيرهم مساحة واسعة للتعبير عن آرائهم وميولهم، والكثير منهم لا يستطيع التعبير عنها في الواقع المعاش نتيجة الخوف من الاضطهاد أو التنمر أو الاعتداء الجسدي واللفظي. ويحاول العديد من هؤلاء الأشخاص استفزاز المجتمع من خلال منشوراتهم على وسائل التواصل الاجتماعي وهذا ناجم عن تعمّق الخلاف الفكري بين الآراء المؤيدة للمثلية الجنسية والرافضة لوجودها.
لكن واستناداً إلى التحليل الموضوعي المتعلق بمفهوم المثلية وأسبابها، سيكون لهؤلاء الأشخاص أثر بالغ على الفئات العمرية المراهقة أو الأطفال الذين يستعلمون وسائل التواصل الاجتماعي، وستتأثر هذه الفئات حكماً بالأنماط السلوكية التي يقوم المثليون بنشرها على حساباتهم الالكترونية. هنا يجب إيجاد تنظيم قانوني يمنع هؤلاء الأشخاص من نشر محتويات من شأنها التأثير على المجتمع من قبيل الحفاظ على الصحة النفسية والعقلية للفئات العمرية القابلة للتأثر بهذه المحتويات.
هل الديموقراطية تعني الاعتراف بالمثلية الجنسية؟
إن تحليلنا لهذه الظاهرة ليس من قبيل انتقاد الآراء المتعلقة برفضها أو تأييدها، بل من قبيل ضرورة الانتباه لمجموعة من المسائل المتصلة بها والتي لها آثار سلبية بالمطلق. ومن واجب المشرع اللبناني العمل على خلق توازن بين مسألة الحرية الشخصية ومتطلبات الصحة والسلامة العامة. فالديموقراطية تقتضي خلق هذا التوازن والحفاظ عليه، وهنا سيكون للمثليين الحق في التعبير عن آرائهم أو معتقداتهم الفكرية وممارسة حياتهم الطبيعية دون التأثير السلبي على غيرهم من الأشخاص. فالمجتمع اللبناني يحتوي على تيارات فكرية مختلفة، هنالك التيارات الفكرية المدنية وهنالك التيارات الفكرية الدينية، ومخطئ من يظن أن الانحياز للمثلية الجنسية هو تمدّن وتحضّر وانتقال نحو المجتمع المدني، فمفهوم المدنية أعمق وأشمل بكثير من أن يتم حصره بمسألة المثلية الجنسية. وعند مناقشة أي ظاهرة جديدة، لا بد من الأخذ بعين الاعتبار احترام الحقوق الأساسية لجميع البشر انطلاقاً من صفتهم الإنسانية، فممنوع التعدي على هذه الحقوق من قبل أي جهة شريطة أن تتم ممارستها بما لا يتعارض مع حقوق الآخرين وبما لا يتعارض مع متطلبات السلامة والصحة والأمن ضمن المجتمع.