نجيب ميقاتي.. الإنسانية والمهمات التاريخية الصعبة
كتب عادل كروم
في العام 1998 دخل دولة الرئيس نجيب ميقاتي عالم السياسة، ولعله قبل ذلك ولج هذا العالم من خلال التجربة الإقتصادية فحضر اسمه في مناسبات عدة، في لبنان وحول العالم، الى جانب اسم شقيقه طه ميقاتي، ولم يكن قد طرق باب السياسة بعد لا نائبا ولا رئيسا للحكومة، اذ انه في العام هذا 1998 سُمّي وزيرا في حكومة الرئيس سليم الحص في عهد الرئيس اميل لحود.
كنا في ذلك التاريخ، في مدينة طرابلس، نستخدم مهنتنا فتستخدمنا في مسعى للوجود والكينونة في عالم الصحافة، وكان من محاسن الصدف أننا تعرفنا وقتها الى معالي وزير الأشغال العامة والنقل، نجيب ميقاتي، فارتبطنا به ارتباط المحب والغيور، وكنا نتبادل معه ثقة بثقة ومحبة بمحبة، وكانت كاميرتنا تُخصّص أو تكاد له وحده، فننتظر مساء الخميس كي نستقبله ونستقبل معه زواره من النواب والفعاليات ورؤساء البلديات وأهالي المدينة. كانت الأيام تمضي معه بسرعة وبمتعة في آن معا، لذلك كان الوقت مهما وثمينا ومفرحا ونشيطا وكثير العمل. كنا نتنقل من طرابلس الى عكار، الى البترون، الى بشرّي، الى جرود الضنية، كما كنا نتجوّل كل اسبوع في مرفق في طرابلس.
وهكذا كان حتى العام 2000 حيث اختار دولة الرئيس أن يخوض غمار الإنتخابات النيابية فيما سُمّي وقتها على أنه “موسم انتخابات الأقوياء”. وبالفعل، صبّت طرابلس في صندوقه وفاء ومحبة وقوة وقدرة، فصارت المسؤولية معه مضاعفة. ولذلك، كنا نتنبّه أكثر لكل استحقاق، لكل تفصيل. لم نكن نتساهل، لا مع المحبين ولا مع غيرهم، بتفضيل الشروط وبتقديم الشروط الفضلى. لم نكن نفارقه، ولم تكن عدساتنا تستلطف ملاح غيره، حتى كدنا أن نحصر عملنا بملاحقة نشاطه غالبا وحاضرا، فأطلق علينا البعض في ذلك الوقت اسم “مصوّر الوزير النجيب” أو “مصوّر معالي الوزير”، حتى أن بعضهم ذهب بعيدا في تسميتنا “مصوّر دولة الرئيس”.
وكان العام 2005 هذا العام المؤلم لنا ولنجيب ميقاتي في آن معا، كان عام النكبة، ولكنه كان موعد استحقاق رئاسة الحكومة اذ أن الإجماع وقع على النجيب لخوض غمار الإنقاذ ونقل البلد الى ضفة الهدوء بعد اندفاع نار اغتيال رفيق الحريري. كنا أمام رجل اختار أن يحمل كرة نار اغتيال الشهيد الحريري لينتقل بالبلد الى ضفة استحقاق آخر. ولكن كانت مسؤوليتنا، ونحن نواكبه، كبيرة وأكثر دقة، أكثر حرفية وأكثر التزاما. لم يكن من السهل أن تحمل أدواتك وتعمل على مدار الساعه مع دولة رئيس الحكومة. وهذه المرة واستنادا الى الواقع، أطلق علينا اسم “مصور دولة الرئيس”.
مما لا شك فيه أن مرحلة ما بعد رفيق الحريري كانت قاسية جدا في استحقاقاتها الأمنية وحتى السياسية. لذلك، كان لدور دولة الرئيس، على الساحة اللبنانية وفي طرابلس، الأهمية الكبرى في استحقاق وفي توقيت مهم ومميز في تاريخ طرابلس ولبنان.
فرضت الأحداث نفسَها على الحكومة وعلى طرابلس وعلى الواقع العام، وهو كان يأتي الى المدينة بخفر وحياء ومحبة وهدوء، ولم يكن ليفرّط بمواعيد وصوله الى المدينة، وفي أحيان كثيرة كان يسعى للتخلص من المرافقين ليلتزم بما يحب من تنقل حر في المدينة؛ وهذا ما كان يضعنا أحيانا كثيرة في مسؤوليات مهنية، وايضا اخرى شخصية، تحضنا على الحفاظ على الرجل في سلوكه وفي شخصه، ومرات في أمنه الشخصي. حمل المسؤولية رغم المحنة ومضى ليحقق في تحسين ما أخذه يوما على عاتقه، فنقل لبنان إلى ضفة الهدوء بعد إنجاز ناجح للإنتخابات النيابية.
مرت السنوات هذه، وكانت تفرض علينا أن نكون العين والعدسة والقلم والصورة، وحصلت الإنتخابات التي اختار دولة الرئيس أن يكون مشرفا عليها، لا شريكا أو مرشحا فيها، ومع انتهائها خاض الرجل معركة الوسطية ليعيد الإعتبار الى الفكر لا الى الشطحات السياسية، ويعيد الإعتبار لمسار العلم والعلماء في طرابلس؛ فهو أحضر الى الفيحاء كبار أرهاط مفكري السياسة في العالم العربي وزادنا معهم علما، وزادنا قربا، وزادنا عملا.
توالت السنوات هذه ونحن ننهل ونكتب ونقرأ في كتاب الوسطية، الوسطية ذات الرائحة واللون والهيبة والحضور، التي قالت كلمتها وكرست أكثر فأكثر حضور النجيب في زمن صراع الثامن والرابع عشر من آذار؛ هم اختلفوا ونجيب ميقاتي أكد على إرسال مفهوم الحاجة إلى فن الممكن لإدارة البلد، بوسطية الحاجة الملحة.
ثم شاءت الأقدار السياسية أن يعود دولة الرئيس في العام 2010 الى الحكم رئيسا للحكومة. هذه المرة، كان الإستحقاق أكثر مسؤولية، فكانت عدستنا لا ترقب فقط سلوكه بل كانت ترقب سلوك الآخرين حيث اختار البعض أن يكون على مزاجه في السياسة، وبقي نجيب ميقاتي متمسكا بمسار الحكمة والورد الأبيض، وبوسطية الإعتدال في مقابل الإحتقان وحرب طرابلس التي أشعلت المدينة لسنوات.
آمن الرجل، وقتها، بأن خيار الإنقاذ والإخراج من اللهب الى السلام ومن العاصفة الى الهدوء هو الخيار الأجدى. ولعلي أنا، عادل كروم، قد بدأت أنال حظي بشيء من المرض بعد تلك السنوات فأضطر للغياب عنه رغم أنه لم يكن ليغيب بدوره، فيحضر على الهاتف ويحضر مطمئنا بصوته الحاني المهتم المتابع دائما، هو ومالك وعزمي كانوا يحيطوننا من كل حدب وصوب بعاطفة وبودّ وبوفاء جميل، ولعلي عاندت المرض حتى لازمني، لكنني كنت دائما أسعى للإنتصار عليه مؤمنا بأن الإنتصار في السياسة يشبه الإنتصار على الأمراض كلها، حتى ولو كانت تلك المستعصية منها.
مجدَّدا، عاد دولة الرئيس الى الحكومة العام ٢٠٢٢ ولكن، هذه المرة، أنا في الفراش وهو في سدّة الحكم. ومجددا كما ودائما، هو يتابع كل الناس ومشاكل البلد ويتابع مشاكلي. أنا اليوم في مرحلة دقيقة من المتابعة الصحية، ولبنان ايضا في مرحلة دقيقة من المعاناة السياسية والإقتصادية ولعله يحتاج للتعافي كما أحتاج أنا. ولكننا أيضا، أنا ولبنان، نحتاج لنجيب ميقاتي لنتجاوز هذه المرحلة، فلبنان بحكمة الرجل الذي يحمل كرة النار مجددا صامتا ولكن قويا مرنا، ولكن صلبا لينا، ولكن قاسيا حيث تدعو الحاجة، وأنا بصبر ومثابرة أجاهد المرض، ولعل لبنان يسعى الى الخلاص كما أسعى الى الإستشفاء. والشفاء هو رحلة، رحلة شراكة وتفاعل وثقة، ولعلي اليوم ولعل اللبنانيين غدا سيعرفون، كما أعرف أنا تماما، أن لبنان تجاوز ثلاث مرات مراحل صعبة، وأن هذا الرجل النجيب… الاسم على المسمى في الإنسانية والحكم والسياسة.
وفي الختام، لقد أسقطت الكثير من الأحداث والتواريخ رغبة مني في عدم الإطالة؛ وهذا ما قد ينفع القارئ في الإفادة مما كتبت.