عوده: دولتنا استقالت من واجباتها منذ عقود
قامت جمعية القديس بورفيريوس الرائي قداسا احتفاليا بعيد شفيعها في كنيسة القديس نيقولاوس، ترأسه متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران الياس عودة.
بعد الإنجيل، ألقى عظة قال فيها: “نعيد اليوم لقديس أحبنا وكان لنا أبا في غربتنا، ومعزيا في ضيقاتنا، ومساعدا في أوقات الحاجة، ومؤدبا عند زللنا، عنيت أبانا البار بورفيريوس الرائي. ولد القديس بورفيريوس، واسمه إفانغلوس، في 7 شباط 1906 لعائلة فقيرة ورعة. كان والده مرتل القرية وكان القديس نكتاريوس العجائبي، عند زيارته المنطقة، يستدعيه لمرافقته في الخدم الكنسية، لكن العوز أجبره على السفر للعمل في شق قناة باناما. دفعت حال الفقر قديسنا إلى ترك المدرسة والعمل في رعاية المواشي، ثم في منجم، وفي أحد المقاهي. كان يذهب إلى الكنيسة بتواتر ويقرأ سير القديسين، ومنها سيرة القديس يوحنا الكوخي الذي أراد التمثل به. شعر برغبة جامحة في الذهاب إلى الجبل المقدس آثوس وعيش الحياة الرهبانية، فوصل إلى آثوس بعمر الثانية عشرة. في طريقه، إلتقى على متن السفينة، بتدبير إلهي، ، الراهب بندلايمون، الذي سيصبح أباه الروحي. كمبتدئ، أطاعه طاعة كاملة، وخدمه مع أخيه الأب يوانيكيوس الناسك بتفان. لم يعرف الأب بورفيريوس التراخي، بل جاهد بقساوة. تعلم الإنجيل والتراتيل وخدم كمرتل. العلامة الفارقة في جهاده النسكي لم تكن جهاده الجسدي، بقدر ما كانت طاعته الكاملة لأبيه الروحي. سيم راهبا في الرابعة عشرة من عمره متخذا اسم «نيكيتا»، ثم حصل على الإسكيم الكبير بعد عامين”.
أضاف: “في أحد الأيام قصد الكنيسة فجرا وجلس يصلي منفردا. فجأة، فتح الباب ودخل الأب ديماس، الذي كان ناسكا قديسا متخفيا في مغارة وراح يصلي ساجدا وقائلا: «يا ربي يسوع المسيح ارحمني… أيتها الفائق قدسها والدة الإله خلصينا»، ثم وقف ويداه مفتوحتان بشكل صليب فأحاطته النعمة الإلهية بالنور غير المخلوق، وانتقلت النعمة فورا إلى الشاب نيكيتا الذي تلقى موهبة الصلاة والرؤيا من حينه. حدث تغير جذري في تكوينه الذهني فاقتنى قدرات خارقة من العلي: كان شديد الفرح، دائم الحماسة، وأصبحت حواسه شديدة الدقة، كما أصبح قادرا على معرفة أعماق النفس البشرية. بعد فترة قصيرة تدهورت صحة نيكيتا فأجبره أبوه الروحي على العودة إلى المدينة لاستعادة عافيته فمكث في دير القديس خرالمبوس. عاد إلى الجبل بعد تعافيه، لكنه انتكس مجددا فعاد إلى العالم. تكررت هذه الحادثة ثلاث مرات فقرر أبوه الروحي إرساله إلى المدينة نهائيا، وكان في التاسعة عشرة من عمره. في دير القديس خرالمبوس رسمه رئيس الكهنة بورفيريوس الثالث السينائي كاهنا وأعطاه اسمه، وكان ذلك في عامه العشرين”.
وتابع: “عام 1940، أعطي مهام كاهن في كنيسة القديس جراسيموس التابعة لمستشفى أثينا. هناك ازدادت شهرته وتدفق عليه طالبو الإعتراف، فأصبح أبا روحيا لكثيرين. عام 1970 ترك خدمته في المستشفى لكنه تابع عمله الرعائي، وحوالى العام 1980 استقر في منطقة «ميلسي» حيث أسس دير التجلي للراهبات. تدهورت صحته وفقد بصره، لكنه بقي بنعمة الله مرشدا ومعينا للناس. عام 1991 عاد إلى منسكه في الجبل المقدس حيث أملى على أحد الرهبان وصيته وأوصى بكيفية دفنه. وقد رقد بالرب في 2 كانون الأول 1991 محاطا برهبانه”.
وقال: “يعلمنا القديس بورفيريوس من خلال سيرته الشريفة أن الطاعة مهمة، ليس في حياة الراهب فقط بل في حياة الجميع، على حسب ما يقول الرسول بولس: «أطيعوا مدبريكم واخضعوا لهم» (عب 13: 17). بطاعته، لم يغضب القديس بورفيريوس من قرار أبيه الروحي عندما طلب منه مغادرة الجبل المقدس بسبب تدهور صحته. لم يقف أمامه معتدا بنفسه وقائلا إنه سيبقى في الجبل محتملا آلامه، بل غادر بتواضع وطاعة كليين. يقول قديسنا: «إن الغضب مهما كان قليلا فإنه يولد شرا. ليكن عندنا الصلاح والمحبة في داخل نفوسنا». لذلك، لم يغضب لأن الله امتحنه بالأمراض المتعددة التي أجبرته على العودة إلى العالم لكنه كان يقول: «إن مرضي هو تقدير مميز لي من الله، يدعوني به أن أدخل في سر محبته، وأن أحاول بنعمته الخاصة أن أتجاوب مع محبته. لكنني لست مستحقا». محبته لله لم يكن لها حدود. حتى في أشد أوقات الألم كان يشعر بمحبة الله تغمره، وهو بادل ربه تلك المحبة باحتماله وصبره على الأوجاع قائلا: «كانت الأوجاع رهيبة في كل جسمي طوال الوقت. كان يظن الآخرون أنني ألفظ أنفاسي الأخيرة. أما أنا فكنت قد سلمت ذاتي إلى محبة الله. ما كنت أصلي ليحررني الله من هذه الأوجاع. شوقي كان إلى رحمته فقط. كنت قد اتكأت عليه، انتظرت أن تفعل نعمته فعلتها. كنت لا أخاف الموت». أما صلاته الدائمة فكانت: «ربي يسوع المسيح ارحمني».
وقال: “جمعية القديس بورفيريوس التي تحتفل اليوم بعيد شفيعها، اتخذت هذا القديس مثالا تسير على خطاه في محبة الله ومحبة الناس وخدمتهم. أعضاؤها نذروا أنفسهم لمساعدة الطلاب، ولخدمة الفقير والمحتاج. لم يبتغوا يوما مجد العالم، على مثال شفيعهم، لذلك لا نراهم يطبلون كلما قاموا بعمل خدمة أو رحمة، لكن الله الذي يعرف مكنونات القلوب يعرف محبتهم له وإخلاصهم لتعاليم شفيعهم القديس بورفيريوس الذي قال: «هدفنا واحد في هذه الحياة وهو محبة المسيح ومحبة الناس، لكي نصبح جميعنا واحدا ورأسنا هو المسيح. هكذا فقط نقتني النعمة والسماء والحياة الأبدية». هذه الجمعية، التي تشكل الذراع التي تقوم مطرانيتنا بواسطتها بالخدمة الإجتماعية، تعهدت مساعدة كل عائلة تواجه صعوبة في تأمين كلفة تعليم أولادها، واحتضان كل مسن عاكسته ظروف الحياة، ومساعدة كل فقير ومحتاج ومن قست عليه الأيام. كما لديها مشاريع إنمائية تساهم في خدمة المجتمع دون تمييز. وقد قامت بترميم عدد من المنازل وتجهيزها بعد تفجير الرابع من آب الذي فجر قلب العاصمة، وما زلنا ننتظر اكتمال التحقيق وإعلان المجرم الذي كان سببا في موت مئات الأبرياء، وفي إصابة آخرين ما زالوا يعانون، وفي تدمير آلاف المنازل والكنائس والمؤسسات، ومنها مطرانيتنا الأثرية، وكنائسنا ومدارسنا”.
أضاف: “الدولة بالنسبة للمواطنين هي الملاذ والحماية، وواجبها السهر على راحتهم وأمانهم ومستقبلهم. واجب الدولة تأمين الحياة الكريمة لأبنائها ورعايتهم رعاية الأم المحبة لأولادها، لكن دولتنا استقالت من واجباتها منذ عقود وتركت أمر المجتمع للجمعيات والمساعدات. حتى انتخاب رئيس للبلاد يتطلب عندنا سنة وسنتين وجهودا مضنية، فيما يشكل في البلاد الديموقراطية عملا طبيعيا، بل واجبا يقوم به النواب من أجل ضمان سيرورة البلد”.
وختم: “دعوتنا اليوم أن نغوص في محبة الله مثلما فعل القديس بورفيريوس، وأن نقبل كل ما يصيبنا بطاعة وفرح مكللين بالتواضع، لكي نكسب الإكليل الذي لا يذبل، ونسكن مع الأبرار والصديقين”.