القيم الوجودية لدولة القانون… هل نملكها في لبنان؟؟
بقلم الدكتورة مريم عبدالله اسحق
إذا عدنا لفلسفة الإغريق سنجد أن العدالة هي واحدة من أهم القيم الأخلاقية التي بنى عليها الفلاسفة نظرياتهم التحليلية لوجود الدولة. هذه القيمة تجمع العديد من الفضائل التي يجب أن تتوافر لتأسيس الدولة كمفهوم اجتماعي وسياسي. مضمون هذه القيمة يُجسّد الخير العام لجميع الأفراد في المجتمع كمصلحة عامة وكمصلحة فردية تخص كل شخص من هؤلاء الأفراد. وإذا تعمقنا بشكل أكبر في المضمون الفلسفي لقيمة العدالة سنرى أنه ينطوي على مبادئ طبيعية متعارف عليها بين البشر، وهي بذاتها أساس لمفهوم القانون الطبيعي الذي يعتمده المشرع في المفهوم المعاصر للدولة.
من ناحية أخرى، لا يمكن القول أن العدالة تفترض أن يتم إخضاع الأفراد في المجتمع لإرادة القوانين لأجل حرمانهم من حرياتهم الشخصية أو لمجرد تقييد هذه الحرية. كلا، ليست هذه هي غاية قيمة العدالة أبداً، إنما الغاية هو التأسيس لكيان دولة قادرة على منع التعدي على حريات الآخرين، وهذا أمر يفترضه منطق الحال وفقاً للقانون الطبيعي، فلا يمكن للإنسان الاجتماعي التصرف وكأنه منعزل عمن حوله. هنا ستصبح العدالة أساساً لتحقيق رفاهية عامة لمجموعة الافراد ضمن المجتمع ولكل فرد بشكل خاص.
فرّق أرسطو بين العدالة التي تنتج عن القانون الطبيعي والعدالة التي يفترضها القانون الوضعي، ومن منظوره، فإن العلاقة بين القانون الطبيعي والقانون الوضعي تتجسد في أن القانون الطبيعي يقتضي أن يلتزم الأفراد بطاعة المبادئ المتعارف عليها طبيعياً، وبذات الوقت يدفعهم لأن يلتزموا بالمبادئ التي تم الاتفاق عليها بينهم أياً كان العدل الذي تحققه هذه المبادئ. ومن هنا، سنصل لنتيجة أن هنالك فرقاً كبيراً في العدالة بين المجتمعات نظراً لاختلاف النظم القانونية الوضعية فيها، فقد نقول أن مجتمع ما لديه عدالة أكثر من مجتمع آخر، وهذا الأمر ناتج عن نظامه القانوني أولاً، وعن مدى التزام الأفراد ضمنه بقوانين المجتمع الخاص بهم ثانياً.
العدالة وإن كانت ثابتة كقيمة ولا يمكن أن تتغير، إلا أن التعبير عنها مختلف من حيث المكان والزمان، فلكل مجتمع نظامه القانوني الخاص المستند إلى معايير وعوامل متعددة، مثل العادات والتقاليد والدين والتطور العلمي والفكري… إلخ. وهذه العوامل هي التي تنتج نظام الحكم السياسي في الدولة، وبالتالي، كلما كان المجتمع متطوراً من الناحية الأخلاقية والفكرية، وكلما كان النظام القانوني متطوراً، فإن النظام السياسي سيشبه هذا المجتمع وسيكون متطوراً وقادراً على تحقيق قيمة العدالة التي يجب أن تطبق على نظام الحكم وعلى الشعب بآن واحد معاً على مبدأ أن لا أحد يعلو فوق سلطة القانون ولا أحد بإمكانه خرق الميثاق الجماعي للأفراد في المجتمع.
إذا سألنا أنفسنا من هو المسؤول عن تحقيق العدالة؟ سنجيب أنها الدولة، ولكن ما هي الدولة؟ الدولة هي مجموعة المؤسسات التي تختص بتسيير المصلحة الجماعية للأفراد والعمل على ضمان وجودهم ورفاهيتهم. ولكن الدولة بالمجمل هي شخص معنوي وهمي، ويتولى مهامه مجموعة من الأفراد. لكن يجب التفرقة بين الدولة ونظام الحكم، فالدولة هي مؤسسات، ولكن نظام الحكم هو أيديولوجية سياسية واقتصادية واجتماعية تطبق من خلال هذه المؤسسات. لذلك فإن نجاح الدولة مرتبط بشكل تلك الأيديولوجية الخاصة بنظام الحكم.
من هنا كانت التفرقة بين نظم الحكم، فهنالك النظم الديكتاتورية والشمولية، وهنالك نظم الحكم الديموقراطية. ومن الناحية المنطقية، لا يمكن أبداً لقيمة العدالة أن تتحقق في ظل النظم الديكتاتورية أو الشمولية، فهذه النظم لا تؤمن بالحريات الفردية، ولا يمكن أن نجد في ظلها أي نوع من أنواع العدالة، سواء قانونية أو طبيعية. فمجرد أن يكون أحد الأفراد خارجاً عن إطار القانون أو ينتمي لفئة سلطوية متحكمة بنظام الحكم السياسي وقادراً على التعدي على حقوق الغير ستتبدد قيمة العدالة تلقائياً وسنكون امام بدء انهيار النظام الاجتماعي في الدولة وبدء الفوضى. أما في ظل النظم الديموقراطية التي تحترم الحريات الفردية وتقوم على سيادة القانون واستقلالية السلطات في الدولة، سنجد استقراراً وتطوراً فكرياً وثقافياً وحضارياً كبيراً، وهذا ما سيضمن للدولة الاستمرارية.
إذا نظرنا تحليلياً بناء على ما سبق للواقع في لبنان، سنجد ان قيمة العدالة كقيمة وجودية للدولة والمجتمع غير متحققة، والسبب ناتج عن طبيعة نظام الحكم السياسي في لبنان القائم على ارتباط الطائفية بالهيئة السلطوية السياسية. الطائفية تتحكم بالدستور والمؤسسات واختيار الموظفين والقضاة، وتنحصر وظائف الهيئات السلطوية السياسية بالأحزاب التي تنتمي للطائفية حتى باتت تفرز مفاهيم غير متوافقة مع المنطق أساساً كمفهوم الديموقراطية التوافقية أو مفهوم التوافقية الطائفية. انعكس هذا الأمر على المجتمع اللبناني وأوصل الدولة في لبنان لمرحلة الانهيار على كافة الصعد.
القيمة الوجودية الثانية للدولة هي قيمة الحق، وهنا لا بد أن نعود لأصل هذه القيمة على مستوى العلاقة بين الدولة والأفراد. فالحديث عن نشوء الدولة بعيداً عن الإرادة الجماعية للأفراد يعني أنها دولة غير قانونية ونشأت رغماً عنهم، فنشوء الهيئة السلطوية في الدولة مرتبط بهم وبالعقد الاجتماعي الذي ينظم علاقتهم ببعضهم وبالسلطة. لذلك إذا كان نشوء الدولة مرتبط بإرادة الأفراد العامة، فإن هذا الأمر هو ضمان تمتعهم بحقوقهم الشخصية وضمان لحمايتها. فالقانون هو الوسيلة المثالية لإحقاق الحق وتنظيمه وحمايته, وخضوع الدولة له يعني أنها لم تكن لتتشكل لولا ضرورة استدعتها حماية الحقوق, فخضوعها للقانون ضمانة حقيقية لتحقيق غايات وجودها, وهي حماية الحقوق وبالتالي لا يمكن الأخذ بعين اعتبار أية أسانيد تكرس الحقوق بالإطار البعيد عن القواعد القانونية, كون هذه الأخيرة تحمل عنصر الإلزام, وتساهم في ردع الأشخاص الذين يمسون هذه الحقوق.
ولا تتوقف وظيفة القانون على حماية تلك الحقوق, إنما في النص عليها و تحديد مضمونها أيضاً , فهي قد تتعارض مع باقي الحقوق الموجودة في المجتمع والخاصة بالأفراد أو الدولة, وهنا تكمن الوظيفة القانونية في تقييد الحقوق الفردية أيضاً, فمتى بدأ حق للآخر ينتهي حق الفرد, ويصبح تجاوز هذا الحد اعتداء من قبل الأفراد على حقوق غيرهم, فالحق الفردي لا قيمة له ملم يقم القانون بتوضيحه ورسم حدوده ووضع الجزاء الملائم تجاه كل من يمسه بالضرر, وبرأينا أن هذه القيمة التي يمنحها القانون للحق تعتبر كاشفة وليست منشئة, فالحق موجود وخاص بصاحبه ويقرره له القانون الطبيعي, إلا أن القانون الوضعي يصونه ويحميه وبدون الحماية يفقد مضمونه.
وقد يتعلق الأمر بحقوق غير مضمونة في القانون بل في مصادره, كالعرف أو الشريعة الدينية, أو العادات والتقاليد, إلا أن هذا الأمر لا يعطي الحق مضمونه وقيمته كما لو كان قد نص عليه القانون بشكل واضح وصريح, فعنصر الحماية للحقوق يرجع إلى القانون ولا يمكن أن تحمي العرف حقاً إذا ما تم الاعتداء عليه بدون وجود نص قانوني يجرم هذا الاعتداء.
لقد ساهم مفهوم الحق في تدعيم مبدأ الفصل بين السلطات في الأنظمة الديموقراطية لأجل الحفاظ عليه, حيث في حال نشوء خلافات بصدد الحقوق فإن الفصل بين السلطات سيساهم بحماية هذا الحق بشكل كبير, وهذه الحماية تتطلب أن تكون هنالك سلطة تفصل في النزاع وتحدد الحقوق وفق ما رسمته السلطة التشريعية, وهي السلطة القضائية, وأن تؤدي هذه الوظيفة بشكل مستقل ونزيه بعيد عن أية إملاءات خارجية, ومن ثم يعهد إلى سلطة تملك أيضاً وفق القانون ما يلزم من وسائل القهر للدفاع عن الحقوق وصيانتها في وجه من يعتدي عليها, وهذا الأمر يفسّر وجود السلطات الرقابية على عمل الأجهزة الإدارية والتنفيذية والقضائية في الأنظمة الديموقراطية, ولذلك للتثبت من مدى الالتزام في القانون لجهة الموضوع والإجراء.
أما في إطار الحياة السياسية, فقيمة الحق تبنى على عنصرين أساسيين. الأول: ويتضمن حق الأفراد جميعاً في الاشتراك بالحياة السياسية, وإدارة الدولة والمجتمع, إلا أن هذا الحق مقيد أيضاً وفق القانون بوجود كفاءات ومؤهلات معينة لدى الأفراد الذين يديرون الدولة والمجتمع, وقادرين على اتخاذ القرار السياسي وفق تطلعات الشعب. أما العنصر الثاني ويتضمن هذا العنصر وضع محددات لسلطة الهيئة الحاكمة في الدولة, لأجل ضمان منع تعسفها في استعمال السلطة تجاه الأفراد, وبالتالي ضمان أمن المجتمع واستقراره.
وبالتالي يجب أن يفهم من الحق أنه قيمة يتساوى فيها كافة الأفراد في المجتمع, فلا يحق لفئة واحدة السيطرة على الحكم في الدولة أو توراثها, وهذا الأمر موجود في الأنظمة الشمولية وحتى الملكية, فالملك ليس منزهاً ولا يملك مؤهلات تجعله متميزاً عن البقية, ولم يعينه الله ليحكم مجتمعاً ما للأبد, ولابد من تداول السلطة السياسية, ومن ثم أن تكون الوظائف العامة مرتبطة بحزب واحد أو فئة واحدة فهذا أبعد البعد عن الحق والعدالة الطبيعية.
إن البحث عن العدالة بين الأفراد والحفاظ على حقوقهم لا يتوقف على الحياة السياسية في المجتمعات البشرية, فصحيح أن العدالة والحق هما غايات القانون في أي مجتمع, إلا أن تحقيقهما بالنسبة للنظم السياسية لا يعتبر كافياً بذاته لسيادة الأمن والسلم والاستقرار فيه, ولابد أن تنسحب هذه القيم على كافة أوجه الحياة وأبرزها الحياة الاقتصادية للأفراد, فالاقتصاد والعمل ركيزة هامة من ركائز تنمية الشعوب وتطويرها عن طريق تطوير الذات البشرية بالدرجة الأولى, وتبعاً لذلك فقد نشأت إلى جانب النظم السياسية نظم اقتصادية ارتبطت معها بصورة واضحة وكبيرة وساهمت في نجاحها والترقّي بمجتمعاتها, كما ساهم البعض منها بتدمير الحياة الاجتماعية وأسس لزوال النظم السياسية الحاكمة, وسنستعرض من خلال الآتي أبرز النظم الاقتصادية المجتمعية وعلاقة القانون بتلك النظم في إطار تحقيق العدالة والحق.
في لبنان، قد لا يكون هنالك مجال للحديث عن وجود أساس متين لتحقيق القيم الوجودية للدولة، وأولها العدالة والحق، وهذا الأمر ناجم عن أيديولوجية سياسية واقتصادية مهترئة للنظام السياسي في لبنان.