الشيخ الخطيب: لنجلس إلى طاولة الحوار لا مذاهب وطوائف بل مواطنين وأمة وشعبا
أدى نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى العلامة الشيخ علي الخطيب الصلاة في مقر المجلس بعد أن ألقى خطبة الجمعة التي جاء فيها: “جمع الامام الصادق في شخصه العظيم إلى جانب العلم النبوي الواسع الخلق النبوي الكريم، وأجمع المسلمون على تعظيمه واحترامه كما هو الشأن في الأئمة من أهل البيت (ع) ولكنه أوتي الفرصة بما لم يتهيأ لهم من إظهار علمه والتواصل مع الأمة، فبنى جامعته العلمية ومدرسته التي لم تقتصر على الفقه بل تجاوزتها إلى العلوم الاخرى في العقيدة والفلسفة وعلم الكيمياء وعلم الكلام لمواجهة السفسطة والزندقة والتشكيك بالعقيدة التي لاقت رواجاً من قبل السلطة الحاكمة، وأنتج العديد من المتخصّصين في هذا المجال لمواجهة التيارات المنحرفة والملحدة والدفاع عن عقيدة المسلمين ودينهم، وكان له الفضل في هزيمة هذا النهج المنحرف والخطر وإفشال مخطط السلطة التي أرادت التحرّر من سلطة الدين التي كانت تُقيّد حركتها وتصرفاتها وتمنعها من اتّباع رغباتها وأهوائها ونزعاتها فوجدت في الامام الصادق سداً منيعاً يقف دونها، فلم تجد بُدّاً من التخلّص منه بالقتل، ولمّا لم تتمكن من القيام بهذه الجريمة بشكل علني لِمَا كان يحظى به من مقام معلوم ومحترم لدى الأمة لجأت السلطة الظالمة إلى اغتياله عبر دَسّ المنصور السمّ له في العنب بعد أن دعاه اليه، وهكذا تخلصت السلطة منه، ولكن الامام الصادق (ع) كان قد ترك خلفه سواءً ولده الإمام موسى الكاظم (ع) ومن تلامذة له في جميع أقطار الأمة آنذاك يتابعون الخطى، ما اطمأن اليه في دفع الخطر عن الدين والعقيدة الذي كانت السلطة تسعى اليه فحال دونها وأثبط مرادها، فبه وبأبنائه وآبائه الطاهرين حفظ الله هذا الدين، فبهم أتمَّ الله نوره وأحبط مراد الساعين في إطفائه {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}.”
أضاف: “لئن كان أئمة أهل البيت (ع) قد أُقصوا عن مباشرة أمور المسلمين ولكنهم (ع) لم يتركوا الأمور تجري وفق أهواء الحاكمين، فنهجوا نهج الحفاظ على أمور المسلمين مبتعدين عن السعي إلى استلام الحكم عبر: أولاً التمسك بوحدة الأمة. ثانياً: الحفاظ على سلامة العقيدة والشريعة. ثالثاً: الوقوف في وجه انحراف السلطة وفسادها وتحقيق العدالة الاجتماعية. هذا ما سعى إليه أئمة أهل البيت (ع)، فوقفوا في وجه تمزيق الأمة وعملوا على تثبيت وحدتها، وقد مارس هذا النهج وأسّس له أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) حين أُقصيَ عن حقّه ورأى أن المطالبة بحقّه ستضعف الدين وتنهيه، وفي ذلك يقول:”فَمَا رَاعَنِي إِلَّا انْثِيَالُ النَّاسِ عَلَى فُلَانٍ يُبَايِعُونَهُ ، فَأَمْسَكْتُ يَدِي حَتَّى رَأَيْتُ رَاجِعَةَ النَّاسِ قَدْ رَجَعَتْ عَنِ الْإِسْلَامِ ، يَدْعُونَ إِلَى مَحْقِ دَيْنِ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهَ وَسَلَّمَ ـ فَخَشِيتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرِ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ أَنْ أَرَى فِيهِ ثَلْماً أَوْ هَدْماً ، تَكُونُ الْمُصِيبَةُ بِهِ عَلَيَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلَايَتِكُمُ الَّتِي إِنَّمَا هِيَ مَتَاعُ أَيَّامٍ قَلَائِلَ ، يَزُولُ مِنْهَا مَا كَانَ ، كَمَا يَزُولُ السَّرَابُ ، أَوْ كَمَا يَتَقَشَّعُ السَّحَابُ ، فَنَهَضْتُ فِي تِلْكَ الْأَحْدَاثِ حَتَّى زَاحَ الْبَاطِلُ وَزَهَقَ ، وَاطْمَأَنَّ الدِّينُ وَتَنَهْنَهَ”. وربما أن هذا هو قصد الخليفة عمر ابن الخطاب بالفلتة التي وقى الله شرّها في وصفه لبيعة أبي بكر بقوله: ” لقد كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله شرها”. وهو نفسه ما منع علياً أن يُستَفزّ في موارد عديدة كان من أبرزها قتل خالد لمالك بن نويرة وقبيلته بحجة امتناعهم عن تسليم الزكاة واعتباره مُرتداً. لقد صبر علي (ع) على الاذى والاستفزاز ولم يقم بردة الفعل لأنه رأى أن ذلك سيوهن الإسلام ويوقع به ثلماً أو هدماً وهو ما يخافه. وهو ما فعله الامام الحسن (ع) حين رأى الضعف والوهن والنفاق في جيشه فأبقى على المخلصين من أصحابه وفَوّتَ على معاوية فرصة القضاء عليهم بفتنة داخلية أضرمها عملاؤه داخل صفوف الجيش ليكشف للناس حقيقته وما تنطوي عليه سريرته التي سرعان ما ظهرت حين أعلن نقضه عهده الذي أبرمه مع الامام الحسن (ع)، وأن كل ما التزم به له تحت قدميه، وأنه لم يأتِ ليأمرهم بحجّ أو صلاة أو صيام وإنما ليتأمر عليهم، فهو لا يبغي سوى الإمرة وأما أمر الدين فلا يعنيه ولا يهتم لأمره، وبذلك أخرج الامام الحسن (ع) ما كان معاوية يخفيه عن الناس من المشروع الاموي وهو الانقلاب على الاسلام عن الناس على الرغم من دهائه، وقد أفصح عنه في المرحلة التالية إبنه يزيد بعد ثورة الامام الحسين (ع) وهو من نتائجها حين بدا فرحاً بما حسبه انتصاراً له وهو في الحقيقة افتضاح للمشروع الاموي وأن المقصود هو الانتقام من الإسلام ولثارات بدر وحنين”.
وتابع: “ليت أشياخي ببدر شهدوا وقعة الخزرج من وقع الأسل قد قتلنا القرن من ساداتهم وعدلنا ميل بدر فاعتدل وقد كان حظ الامام الصادق (ع) من هذا النهج أن وقف في وجه الحكم العباسي الذي فسح في المجال واسعاً للانحراف الفكري والعقائدي الالحادي بما عُرِف بالزندقة وحمايته، ثم باشعال الفتنة بين اتباع المذاهب بعد أن أسّس لتمذهب الأمة وتقسيمها على هذا الأساس. لقد كانت مدرسة الإمام الصادق (ع) أهم مدارس الامة على الإطلاق، وكان من تلامذته أهم اصحاب المذاهب التي نشأت ف يما بعد وليست في ذلك مشكلة ولكن المشكلة أن السلطة عملت على مذهبة الأمة فجعلتها أمماً وأدخلتها في صراعات مذهبية يكفر بعضها بعضاً ، ويشغلها عن محاسبة السلطة ومراقبتها، وما زالت الأمة تدفع ثمن هذا الانقسام إلى اليوم ولم تستطع الأمة أن تجد لها حلاً يُخرِجها من هذا الواقع المؤسف الذي لم يوجد حلاً للسلطة في مواجهة معارضي فسادها وانحرافها فقط وإنما فتح باباً لأعداء دينها وتاريخها والطامعين في ثرواتها وخيراتها لاستغلال التناقضات المذهبية المصطنعة للانقضاض عليها وانتهاك كرامتها واستضعافها وتفتيتها وإخراجها من التاريخ ومن أن تكون فاعلة في محيطها والعالم”.
وقال: “إنّ المشكلة الأساسية التي نعاني منها في لبنان هي امتداد لنفس معاناة أمتنا وبالأخص في العالم العربي في الفهم المُتخلّف والخاطيء لخصوصية المجموعات المذهبية والطائفية وتوظيفها في مشاريعها الخاصة الذي يجعل منها مجموعات متخاصمة بل عدوة يعتبر كل منها الآخر عدواً له يجعلها ترتد على الداخل بافتعال صراعات داخلية، وقد يصل الامر ببعضها إلى الاستعانة بالعدو الحقيقي والطامع فيها على الآخر من إخوانه وأبناء أمته ووطنه بدل أن تستغل جهودها في مواجهة الاخطار الخارجية التي تهدّد وجودها فَتُهدر الطاقات وما تملكه الأمة أو أبناء البلد الواحد من قدرات في حروب عبثية داخلية لا يستفيد منها سوى العدو الطامع الذي ينتهز الفرصة للانقضاض على الجميع. شكَّلت هذه القضية المعضلة الدائمة والمانع الأساسي لوحدة الامة والسبب الأساسي للتخلّف وانعدام التنمية والقدرة على استثمار الطاقات والخبرات المتوفرة والثروات الطبيعية والانسانية لصالح مجتمعاتنا، ولذلك فإن التخلّص من هذا التخلّف وتغيير هذا الواقع غير ممكن ما لم نعد النظر بطريقة التفكير بفهم جديد لمعنى الدين والمذهب والوظيفة التي عليه تأديتها في خدمة الأمة والبشرية ضمن إطار الدين وأهدافه الحقيقية التي هي العبودية الخالصة لله سبحانه وخدمة الإنسان ووحدة الأمة التي حملت هذه المهمة كرسالة عليها تأديتها بإخلاص، فالمذاهب ليست الا تفسيرات للدين ، و لا يجوز أن تصبح بديلاً له لتتحوّل الى مجموعة من الاديان المتناقضة بفعل العصبيات والاهواء والمصالح كما هو عليه واقعها الحالي ومنذ أن أُريد لها ان تكون كذلك فتُهيأ لها أن تكون الوسيلة للاستخدام القذر لمصالح المستفيدين من أرباب السلطة والقرار، فيما المطلوب أن توظف في خدمة مصالح الأمة الواحدة وشعوبها كما هو المبدأ القرآني الذي يجب أن يكون المبدأ الحاكم في المذاهب كلها، وان كل اتجاه يخالف هذا المبدأ فهو اتجاه مخالف للقرآن يُرمى به عرض الحائط، وهو تعصّب مقيت يرفضه الدين الذي أتى لتحرير الإنسان والمجموعات البشرية من التعصّب الاعمى للقبيلة والجماعة والمذهب والطائفة. لذلك، فإن وظيفة المجموعات المتنوعة داخل الأمة سواءً المجموعات العرقية أو الدينية هي أن توظّف طاقاتها وانتماءاتها في خدمة أهداف الامة ومصالح شعوبها، وأن تبقى المذاهب الفقهية والعقائدية في إطارها المدرسي دون توظيف لها في السياسة وتحويلها عن وظيفتها الاساسية الى عصبيات تمزق شمل الأمة ووحدتها”.
أضاف: “من هنا، فإنّني أدعو إلى ترك المجادلات المذهبية التي تدور على نفسها منذ أن اُستخدمت المذهبية في السياسة وفي غير إطارها والتي كادت في المرحلة الراهنة أن تقضي على الجميع، وأثّرت على قضايا الامة بما لا يُحمد عقباه، أليس مما يضحك الثكلى أن نرى حرب غزة تأخذ عند البعض طابعاً مذهبياً فيمتنع البعض عن دعمها وتُتهم المقاومة الفلسطينية وقادتها في غزة بالتشيّع والتبعية لأن إيران الشيعية أو المقاومة في لبنان والعراق واليمن التي تساند المقاومة والشعب الفلسطيني، وأصبح الشيعة متهمين أن قاموا بواجبهم الديني بمساندة إخوانهم السنة في فلسطين، فهل التسنّن والتشيع إلا أمةً مسلمةً واحدةً يقتضي الواجب الديني والاسلامي التعاضد بينها في مواجهة أعدائها. فلنخرج من إشكالية المذاهب والطوائف الممزَّقَة والمُختَرعة إلى رَحابة الأمة، ومن مصالح الانظمة الضيّقة إلى مصلحة الأمة الواسعة، فإن رحابة الأمة أوسع من ضيق التمذهب، وليكن التضامن مع القضية الفلسطينية الذي حقّقه طوفان الاقصى فرصةً للتخلّص من قيود الطائفية والعودة إلى الوحدة، وأدعو إلى اجتماع مشترك لبحث جاد حول المعوقات التي تقف عائقاً دون هذه الوحدة، أفليس من المعيب أن ندعو الآخرين إلى كلمة سواء ثم لا نقوم بتطبيق ذلك على أنفسنا؟”
وتابع: “هذا الحل هو الذي سيسري حتى على مشاكلنا الداخلية بدل الخصومات وإثارة العداوات أن نعود إلى الحوار وألا نستخدم المذهبية السياسية أو الطائفية السياسية في استقواء البعض على البعض الآخر التي هي أسلحة دمار شامل لأوطاننا ومجتمعاتنا وقد جَرّبنا ذلك فماذا كانت النتائج؟ لذلك لا مفرّ لنا إذا أردنا ألا نكون أدوات هدم وتخريب من العودة إلى ذواتنا لنجلس على طاولة الحوار لا كمذاهب وطوائف نستخدم الدين والمذهب لمصالح فئوية، بل كمواطنين وكأمة وشعب لنحدّد مصالحنا ومصالح وطننا وشعبنا، وألا نبقى نُمعِن في ضرب مؤسساتنا كلبنانيين لنخرج بحلول تليق بنا كشعب وبوطننا كمواطنين. إنني أدعو إلى الخروج من العقلية الطائفية إلى العقلية المواطنية، وأن نُفكّر في جميع مواطنينا إلى أي طائفة أو مذهب انتموا، وسيكون الاجتماع والحوار تحت قبة البرلمان برئاسة رئيسه دولة الرئيس نبيه بري أمراً طبيعياً وستخرجون بالحل الذي فيه مصلحة الوطن والمواطنين، وسيكون عندئذ النظر إلى المقاومة مستقيماً وأنها مصلحة لبنانية بعيداً عن الحسابات الطائفية التي أعمت العيون عن رؤية الحق. وأنا اسأل ما يسمى بالمعارضة عن موازينها في محاسبة الأمور، فتارة يتحدثون بدعوى المواطنة وأخرى بدعوى الطائفة وهذان لا يستويان، فاختاروا إما أن تكونوا مواطنين تتحدثون بحقوق المواطن أو طائفيين وإلا فأنتم تناقضون أنفسكم”.
وقال: “أقول لكم انظروا إلى الغرب الذي اتخذتموه نموذجاً تحتذونه كيف انكشفت عورته وبانَ على حقيقته في التعاطي مع طلاب الجامعات لديه، وأين هي الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان ليس في تعاطيه مع قضايانا فحسب بل مع أبنائه في الجامعات التي طالما تشدّق بها وعَيّرتم بها شعوبنا، هل ما زلتم مسحورين بحضارته المزيفة وشعاراته الخادعة؟؟ ألا يدفعكم ما يجري في الغرب من انكشاف حقيقة السحر الذي سحر أعينكم إلى أن تروا الأمور بمنظار الحقيقة وأن تقفوا مع أنفسكم وأن تتعلّموا الرجولة من رجال المقاومة ومن الشعب الفلسطيني إلى موقف حرّ أبي”.
وختم: “أخيراً، من المسؤول عما حصل من تفكك في المؤسسات أودى الى التفلّت الأخلاقي المريع أن تنشأ عصابات لخطف الأطفال واغتصابها أو عما حدث من كارثة في مطعم غير مرخّص نتيجة التراخي في المراقبة وعدم تطبيق القانون أودى بحياة عدد لا يُستهان به من الأبرياءالذين نسأل الله لهم الرحمة وان يلهم اهلهم الصبر، لذلك نحن نطالب أجهزة الدولة بالإسراع في التحقيق والتشدّد في تطبيق القانون وملاحقة المجرمين الذين يعيثون فساداً. وما حدث إنذار للمسؤولين عن أن الوضع وصل الى حد لا يمكن السكوت عليه والمعالجة الحقيقية تبدأ بالسياسة وبانتظام المؤسسات رحمةً بالوطن والمواطنين، استجيبوا لنداء الضمير فالوقت لا يتسع للمزايدات والمكايدة، فلا حلّ إلا بالحوار ثم الحوار ثم الحوار، وإلا فإن الذين يرفضون الحوار ويدعون الى التقسيم والفدرلة ويعلمون أن لبنان لا يتحمّلها فهم في الواقع يدعون الى خراب لبنان، ومن لا يريد العيش معنا فليرحل الى حيث يريد”.