قضية شبكة إسطنبول: الأمن والدفاع في قلب التقارب التركي–الإماراتي
ليس ما كُشف في إسطنبول أواخر تشرين الثاني/نوفمبر مجرد واقعة أمنية عابرة، بل محطة مفصلية تتقاطع عندها حسابات الأمن والصناعة الدفاعية والاقتصاد والسياسة في العلاقة بين أنقرة وأبو ظبي، في لحظة إقليمية شديدة الحساسية. فمنذ اللحظة الأولى لإعلان نيابة إسطنبول تفكيك شبكة استخبارية صغيرة، بدا واضحًا أن القضية تتجاوز بعدها الجنائي إلى أبعاد استراتيجية أوسع.
البيان الأول… والارتدادات السريعة
في 25 تشرين الثاني، أعلنت النيابة التركية تفكيك شبكة من أربعة أفراد، ثلاثة موقوفين داخل إسطنبول، ورابع فارّ خارج تركيا. النسخة الأولى من البيان نسبت التحركات إلى «عناصر مرتبطة بالإمارات»، وأشارت إلى استهداف موظفين يعملون أو يتعاملون مع شركات دفاعية كبرى مثل Baykar وAselsan وTAI، إضافة إلى محاولة الوصول إلى خط هاتفي يُستخدم من قبل مسؤولين في وزارة الخارجية وبعض الدبلوماسيين.
هذه الصياغة رفعت مستوى الخطورة فورًا، لأنها مست قطاع الصناعات الدفاعية الذي يُعدّ اليوم أحد أعمدة القوة الاستراتيجية التركية، خصوصًا بعد الدور المحوري لمسيّرات بيرقدار TB2 في ساحات أوكرانيا وليبيا وناغورنو كاراباخ.
تحقيق أمني من المستوى العالي
أشرفت على التحقيق وحدات مكافحة الإرهاب، وهي وحدات اعتادت التعامل مع ملفات معقدة تتصل بشبكات مرتبطة بإسرائيل وروسيا وإيران، وشبكات عابرة للحدود. هذا الاختيار يعكس أن أنقرة تعاملت مع الملف منذ بدايته كقضية أمن قومي، لا كخرق أمني محدود.
شبكة بلا ملامح
لم تُكشف أي أسماء أو جنسيات للمتهمين. كل ما تسرّب أن ثلاثة منهم يشغلون مواقع تنفيذية في شركات ذات صلة بالمقاولات الدفاعية، وأن الرابع خارج البلاد. بعض التسريبات تحدثت عن خليط من الأتراك والأجانب دون تحديد. الشركات الدفاعية الكبرى وُضعت في خانة «الأهداف» لا «الجهات المتورطة».
المؤشرات تؤكد أن العملية لم تكن محاولة اختراق تقني مباشر، بل اعتمدت على الهندسة البشرية عبر جمع بيانات شخصية عن شخصيات نافذة في القطاع الدفاعي والخارجي، وهي طريقة تُستخدم عادة في مراحل التمهيد للتجنيد أو الابتزاز أو بناء خرائط التأثير البشري داخل المؤسسات الحساسة.
أدوات بسيطة… وهدف حساس
استخدمت الشبكة وسائل محدودة: خط هاتف جرى تحويل شريحته إلى خارج تركيا، حسابات وهمية على منصات رقمية متعددة، واتصالات مشفّرة لبناء تواصل مبدئي مع أفراد بعينهم. النمط ذاته سبق أن ظهر في قضايا مرتبطة بشبكات إسرائيلية وروسية، وحتى شبكات نسبت في مراحل سابقة إلى أطراف خليجية.
كشفت الأجهزة التركية الشبكة عبر تتبع رقمي متقدم لمسار الاتصالات، وتحليل حركة الشريحة، وربط محاولات الاتصال بتوقيتات حساسة. وقد خلص المحققون إلى أن العملية «دقيقة ومحدودة النطاق»، وليست محاولة لاختراق أنظمة أو سرقة أسرار تكنولوجية واسعة.
التحول المفصلي في الرواية
العنصر الأكثر إثارة للجدل تمثّل في التراجع السريع عن ذكر الإمارات. فالنسخة المعدلة من بيان النيابة استبدلت الوصف بدولة «أجنبية» غير مسمّاة. وبعد يومين، خرج وزير العدل التركي يلماز تونتش مؤكدًا أن التحقيق «لا يثبت صلة الإمارات»، وأنه «لا مواطنين إماراتيين بين المتهمين».
وفي خطوة لافتة، تواصل النائب العام التركي رسميًا مع نظيره الإماراتي، مؤكدًا عدم صحة الأخبار المتداولة، وجرى توجيه وسائل الإعلام لإزالة أي ربط مباشر بأبو ظبي. الموقف تكرّر عبر بيانات متطابقة لوكالتي الأناضول وWAM الإماراتية.
ظلّ السوابق الأمنية
ورغم التراجع الرسمي، بقي ذكر الإمارات في البيان الأول نقطة لا يمكن تجاهلها، خصوصًا في ظل سوابق تعود إلى عامي 2019 و2020، حين كُشفت شبكات عملت على جمع معلومات داخل تركيا، وتورّط فيها فلسطينيون، أشهرهم زكي يوسف حسن الذي عُثر عليه منتحرًا في سجن سيلفري. هذه السوابق كرّست في الوعي الأمني التركي فكرة «التنافس الصامت» مع أبو ظبي، حتى في ظل مسار التطبيع اللاحق.
اقتصاد ضخم… وتوقيت بالغ الحساسية
تتفجّر القضية في ذروة تقارب اقتصادي غير مسبوق:
صندوق استثماري إماراتي بقيمة 10 مليارات دولار منذ 2021
صفقات وتفاهمات قاربت 50 مليار دولار في 2023
تجارة غير نفطية تقترب من 40 مليار دولار في 2024–2025
استثمارات إماراتية في تركيا تفوق 6 مليارات دولار
استثمارات تركية في الإمارات بنحو 3 مليارات دولار
والأهم، اتفاق تم توقيعه في تموز/يوليو 2025 لحماية المعلومات المصنّفة في المشاريع الدفاعية، وهو من أكثر الاتفاقيات حساسية بين الدول.
لهذا بدت القضية وكأنها انفجرت في لحظة لا تسمح بأي تصعيد سياسي أو دبلوماسي.
احتواء الضرر بدل فتح مواجهة
سلوك الطرفين عكس إدراكًا مشتركًا لحجم الرهانات. لم تُستدعَ سفارات، ولم تُجمّد اتفاقيات، ولم تتأثر الاستثمارات. كل ما سُجّل هو ارتفاع في منسوب الحذر داخل القطاع الدفاعي، ومراجعة فنية لمسارات تبادل المعلومات.
دوائر قريبة من مجلس الأمن القومي التركي ألمحت إلى أن المراجعة «تقنية لا سياسية»، هدفها تعزيز العزل المعلوماتي لا توجيه اتهامات.
تفسيرات متباينة
التحليلات انقسمت بين عدة اتجاهات:
من رأى العملية رسالة سياسية مرتبطة بملفات غزة وليبيا والسودان
من رجّح أن الشبكة واجهة لجهة استخبارية أخرى استخدمت بنية اتصالات إماراتية
من اعتبر أن التقييم الأولي كان متسرّعًا ثم جرى تصحيحه
ومن رأى في السلوك التركي مزيجًا من اليقظة الأمنية وحماية مسار المصالح
الخلاصة
نحن أمام شبكة حقيقية، صغيرة العدد، محدودة الأدوات، واضحة الهدف، سعت إلى جمع بيانات شخصية حول شخصيات حساسة في الدفاع والخارجية التركية. الربط الأولي بالإمارات سقط رسميًا بعد التراجع القضائي والاتصال المباشر بين النيابتين.
العلاقات التركية–الإماراتية لن تتأثر جوهريًا في المدى المنظور، لكنها دخلت مرحلة يقظة أمنية أعلى ومراجعة أدق لحدود التعاون الدفاعي. القضية، في جوهرها، تجلس في قلب المثلث الأشد حساسية اليوم: الأمن – الاقتصاد – السياسة.
