تغييرات إقليمية جوهرية تفرضها مصالح الدول الكبرى

تغييرات إقليمية جوهرية تفرضها مصالح الدول الكبرى

روبا مرعي

لا تمرّ التحولات التي يشهدها الشرق الأوسط كأحداث عابرة على شريط الأخبار، بل تتراكم بهدوء محسوب، في سياق إعادة هندسة إقليمية تقودها مصالح الطاقة والموارد الاستراتيجية، أكثر مما تحكمها الشعارات السياسية أو الاصطفافات الأيديولوجية. نحن أمام مرحلة قد تتجاوز في نتائجها اتفاقية سايكس – بيكو، ليس من حيث الشكل الجغرافي فحسب، بل من حيث طبيعة القوى المتحكمة بالقرار ومسارات النفوذ.
العنوان الحقيقي لهذه المرحلة هو تقاسم الثروات، لا تقاسم النفوذ السياسي فقط. فحقول الغاز والنفط، والممرات البحرية، وخطوط الإمداد، باتت العامل الحاسم في إعادة رسم الخرائط، فيما تتراجع الاعتبارات التقليدية المرتبطة بالسيادة الوطنية أمام منطق المصالح الكبرى.
في ليبيا، لا يمكن فصل المسار السياسي الجاري عن موقع البلاد في معادلة الطاقة المتوسطية والإفريقية. فالنقاشات حول وثيقة السلام وتوحيد الشرق والغرب، بعد سنوات من الانقسام والصراعات القبلية، تأتي في سياق دولي يسعى إلى استقرار نسبي يسمح بإعادة إدماج ليبيا في سوق الطاقة العالمية. الرعاية الأميركية، عبر المبعوث الأميركي اللبناني الأصل مسعد بولس، لا تبدو معزولة عن هذا الهدف، خصوصاً في ظل سعي واشنطن إلى تقليص الاعتماد الأوروبي على مصادر الطاقة الروسية، ولو من دون إعلان ذلك صراحة.
في اليمن، يتقدّم منطق التقسيم مجدداً، لكن هذه المرة بصيغة أكثر تعقيداً. فالطرح المتداول لا يقوم على ثنائية الشمال والجنوب، بل على ثلاثة كيانات، بما ينسجم مع التوازنات الجديدة في الخليج العربي، وحسابات السيطرة على الممرات البحرية، لا سيما باب المندب، الذي يشكّل شرياناً حيوياً للتجارة والطاقة معاً.
أما في القرن الإفريقي، فإن ملف “صومال لاند” يعكس بوضوح كيف تتحول الكيانات الهشة إلى أوراق تفاوض في صراع دولي أوسع، هدفه السيطرة على الممرات البحرية الممتدة من خليج عدن إلى البحر الأحمر، وصولاً إلى قناة السويس. العبث بالخرائط هنا ليس وليد نزاعات داخلية فقط، بل نتيجة مباشرة لصراع القوى الكبرى على طرق التجارة العالمية.
وسط هذا المشهد المتداخل، تبرز سوريا كنقطة ارتكاز مركزية. فموقعها الجغرافي، وارتباطها المباشر بملف الطاقة في الحوض الشرقي للبحر المتوسط، يجعلانها على تماس مباشر مع صراع دولي يتجاوز حدودها. أي اهتزاز إضافي في بنيتها الجغرافية أو السياسية قد يتحول إلى زلزال إقليمي، خصوصاً في ظل غموض مستقبل السيطرة على مناطق الشمال والجنوب، وتداخل المصالح الأميركية والروسية والتركية والإيرانية.
في هذا السياق، يتصاعد التوتر بين تركيا وإسرائيل، ليس كخلاف سياسي عابر، بل كصراع استراتيجي على ترسيم الحدود البحرية وحقوق التنقيب. محور قبرص واليونان وفرنسا وإسرائيل، والذي انضم إليه لبنان مؤخراً، يعكس محاولة لفرض وقائع قانونية جديدة في شرق المتوسط، في مواجهة تمسّك تركيا بممر بحري يربط قبرص التركية بالسواحل الليبية، بما يضمن لها موقعاً متقدماً في معادلة الطاقة.
اللافت في كل هذه التحولات هو الغياب الأوروبي الفعلي. فالقارة التي تشكّل أحد أكبر مستهلكي الطاقة في العالم، تبدو عاجزة عن لعب دور مستقل، مكتفية بردود فعل سياسية وإعلامية، بينما تُدار الملفات الأساسية بين واشنطن وموسكو، وبمشاركة إقليمية فاعلة من أنقرة وطهران وتل أبيب. أوروبا حاضرة كمصلحة، غائبة كقوة مقرِّرة.
الولايات المتحدة تدير المشهد من زاوية حماية مصالحها الطاقوية والاستراتيجية، ولن تسمح بخسارة نفوذها في إقليم غني بالغاز والنفط. في المقابل، تعود روسيا إلى الشرق الأوسط من بوابات متعددة، أبرزها إيران وتركيا، وفق منطق المصالح الصلبة، بعد انحسار الأيديولوجيا كعامل حاكم للسياسات الدولية.
في خضم هذه التوازنات، تستعد إسرائيل لمرحلة جديدة من توسيع نفوذها، مستفيدة من حالة التفكك العربي والانشغال الداخلي للدول المحيطة. ولا يغيب عن حساباتها المشروع الاستيطاني، سواء في الجولان السوري المحتل أو في جنوب لبنان، ضمن رؤية طويلة الأمد لإعادة تثبيت حدود الأمر الواقع.
في المحصلة، لا تبدو المنطقة مقبلة على تسويات نهائية بقدر ما تتجه نحو إدارة أزمات طويلة الأمد، تُضبط فيها النزاعات بما يخدم مصالح القوى الكبرى، فيما تبقى الدول العربية في موقع المتلقي، ما لم تتمكن من صياغة رؤية موحدة تحمي ثرواتها وتمنع تحويل جغرافيتها إلى مجرد ساحة لتقاسم الغنائم.

Spread the love

adel karroum