“لقد تحطمت معنوياتي” و”لحظة اللاعودة”.. أزمة البحث العلمي في لبنان والخيارات الصعبة
الأزمات الوطنية المتزامنة في لبنان وضعت الباحثين في مأزق. يسترجع زياد داوود، عالِم الميكروبيولوجيا اللبناني، البوادر الأولى لتدهور الوضع في بيروت. فقبل بدء الاحتجاجات الجماهيرية الحاشدة في شهر أكتوبر/ تشرين الأول من عام 2019، كان هو وفريقه يدرسون أمراض الأمعاء المكتسبة من المجتمع، وذلك في إطار مشروع تيسّر تنفيذه من خلال منحة بقيمة 50 ألف دولار أمريكي من جهات تمويل محلية.
أدت الأزمة الاقتصادية إلى نقصٍ حادّ في احتياطي الدولار الأمريكي؛ إذ فرضت البنوك قيودًا مشدّدة على السحب، وتأرجحت أسعار الصرف تأرجحًا بالغًا بين السعر الرسمي البالغ حوالي 1500 ليرة لبنانية لكل دولار وسعر السوق السوداء البالغ حوالي 7500 ليرة للدولار. ونظرًا إلى أن التشريعات الحكومية واللوائح الجامعية تفرض على الباحثين دفع ثمن المنتجات والخدمات المقوّمة بالدولار وفقًا للأسعار الرسمية، في حين رفض البائعون قبول هذه الأسعار، اضطر داوود إلى التفاوض على سعر جعل منحته تنكمش بمقدار الثلثين.
يقول داوود، في مكالمة هاتفية من ميشيغان بالولايات المتحدة، حيث بدأ مؤخرًا وظيفةً جديدةً مديرًا لقسم الميكروبيولوجيا السريرية والأمراض المـُعدية في عيادة ميشيغان الصحية وأستاذًا بجامعة ميشيغان المركزية: “كانت الأوضاع في غاية السوء”. كان قرار الهجرة إلى الولايات المتحدة مؤلمـًا. فقد اضطر داوود إلى التخلي عن عشرين عامًا من المشاريع البحثية وتكوين الشبكات المهنية في لبنان، بالإضافة إلى فراق الأهل والأصدقاء.
حتى مع تصاعد المشكلات في لبنان خلال عامي 2019 و2020 -مشكلات اقتصادية وسياسية ثم جائحة كوفيد-19- تشبث داوود بالأمل في أن يعود البلد إلى مساره الصحيح، وتريث في قبول عرض العمل في ميشيغان. ثم أتى شهر أغسطس/ آب بالانفجار الكيميائي الهائل في بيروت، انتكاسة كبرى أوصلت داوود إلى نقطة الانهيار. فمن الأماكن التي تضررت من جَرَّاء الانفجار مستشفى سان جورج، حيث كان داوود رئيسًا لقسم الميكروبيولوجيا السريرية، كما كان أستاذًا في كلية الطب بجامعة البلمند.
يقول داوود عن شعوره حينها: “لقد تحطمت معنوياتي”. تضمنت تبعات الخراب الشديد الذي أصاب مستشفى سانت جورج فقدان حوالي 1900 عينة بكتيرية تم عزلها من المرضى. كان كنزًا دفينًا عكف داوود على جمعه منذ أن استقر به المقام مرةً أخرى في لبنان عام 2000.
منهكون ولكن لم يفقدوا بصيرتهم
أزمات لبنان، التي يَزيدُ بعضُها الآخر سوءًا، أنهكت الكثير من الباحثين اللبنانيين. فيجب على أولئك الذين لم يغادروا البلد اجتياز مسارات صعبة. بالنسبة للبعض، يعني هذا تقليص حجم المشاريع أو تأجيلها إلى أجل غير مسمى. بالنسبة للآخرين، يعني هذا أن يكثفوا الزيارات للتفاوض والالتماس من مديري البنوك الذين يملكون قدرًا من الحرية لتقرير الحدود القصوى لمبالغ السحب بالدولار. وكان عليهم إجراء المزيد من المكالمات الهاتفية لتهدئة المورّدين المتوترين ومسؤولي المنح البحثية.
عندما تعطل جهاز التحاليل الكيميائية السريرية، وجد عُمر عبيد -أستاذ التغذية وعلم الغذاء بالجامعة الأمريكية في بيروت- نفسه بين خيارين لا ثالث لهما: إما أن يترك الجهاز معطلًا أو أن يدفع ثلاثة أضعاف التكلفة المطلوبة لإصلاحه في الظروف العادية. وهذا الجهاز يوفّر المعلومات عن نسبة الدهون في الدم، ضمن جملة بيانات أخرى. فقرر عُمر أن يدفع تكلفة الإصلاح، مما اضطره إلى التفاوض على السعر مع مقدّم الخدمة.
يقول عبيد إن الجامعة الأمريكية في بيروت كانت متعاونة، إذ جعلت إجراءات سداد التكاليف أكثر مرونةً، وقدمت دعمًا خاصًّا بأوقات الأزمات لأعضاء هيئة التدريس. ولكن في نهاية الأمر، ومهما حاولنا بجدّ واجتهاد، فإن “الجامعات لا تستطيع أن تحل المشكلات التي تخلقها الحكومات”.
وتقول سهى كنج شرارة، أستاذ الطب الباطني بالجامعة الأمريكية في بيروت، والمختصة بالأمراض المـُعدية: إنها اضطرت إلى إيقاف مشاريع بحثية جديدة. وتعتبر نفسها محظوظةً لأنها كانت قد انتهت من عملها البحثي في آخر مشاريعها الكبرى قبل السقوط الشديد في هوة الإضراب السياسي عام 2019. إلا أنها لم تستطع الاستمرار في منصبها كطبيبة.
وقد أدت الفوضى في سوق العملة إلى ارتفاع هائل في أسعار الكواشف، التي لا تُستخدم في البحث العلمي فحسب، بل أيضًا في تشخيص الأمراض. ونتيجةً لذلك، ازداد إعراض شركات التأمين الصحي عن تغطية تكاليف التحاليل الطبية للمرضى، وهو وضع مُحزن في ظل تفشِّي جائحة، كما تقول كنج شرارة.
ونظرًا إلى مكانتها المتقدمة في مجالي البحث العلمي والطب السريري، تقول كنج شرارة إن توقُّف مشاريع البحوث الجديدة لن يدمر مسارها المهني، ولكن سيكون على الباحثين المبتدئين وأولئك الذين هم في منتصف مسيرتهم المهنية اتخاذ قرارات مختلفة.
وكانت الانتقادات الموجّهة إلى الحكومة اللبنانية، التي تخلفت عن سداد ديون البلد في مارس/ آذار الماضي، قد لاقت ما يشبه الإجماع. كما استدعت شدة الأزمة الاقتصادية إجراء مقارنات بالحرب الأهلية اللبنانية في سبعينيات القرن العشرين وثمانينياته. تقول كنج شرارة: “حتى خلال الحرب الأهلية، كانت الحياة الاقتصادية متواصلةً إلى حدٍّ كبير دون معوقات”، وهذا بعيد كل البعد عن الوضع الآن.
في الواقع، ربما كان للكارثة الاقتصادية التأثير الأكبر على مجال البحث العلمي في لبنان. ويذكر داوود أنه برغم فداحة جائحة كوفيد-19 وانفجار الميناء، فإن التخفيف من الضرر الناجم عنهما مسألة وقت. إلا أن الأمر لا ينطبق على الاضطراب الاقتصادي والبيئة السياسية الكامنة وراءه.
ويصف داوود قراره بالهجرة إلى الولايات المتحدة بأنه “لحظة اللاعودة”. ويقول: “نحن اللبنانيين نفخر بأن لدينا القدرة على أن نبدأ من جديد، ولكن كم مرةً تستطيع أن تبدأ من جديد في حياتك؟!”.
Scientific American