خطاب العنف السياسي والطائفي في لبنان: محاولات تكرار إرث العنف والصراع الأهلي:
الدكتورة مريم عبد الله اسحق
بعد مرور أكثر من ثلاثين عاماً على انتهاء الحرب الأهلية، بدأت موجات العنف تظهر من جديد ضمن الفئات الاجتماعية والدينية والسياسية في لبنان. لقد كان العنوان الأبرز للفترة الزمنية التي امتدت منذ العام 1975 حتى العام 1990 هو العنف السياسي والطائفي وارتكاب جرائم وانتهاكات جسيمة طالت جميع مكونات المجتمع اللبناني وأدت لتدمير الحاضر اللبناني بشكل شبه كلي. في الوقت الحالي، يكرّس خطاب العنف السياسي والطائفي في لبنان العودة لتكرار الإرث السابق من الصراع، وهذا الأمر قد يؤدي لانهيار لبنان اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً من جديد.
الحقيقة أن توصيف الواقع الحالي للعنف في لبنان لا يمكن أن يتم من دون إجراء تحليل استقرائي لمعطيات أساسية لم تتغير منذ الحرب الأهلية، ولمعطيات جديدة تتعلق بالواقع الذي وصلت إليه الدولة في لبنان. لقد عزز غياب الدولة اللبنانية خطاب العنف السياسي والاستعداء الاجتماعي المرتبط بالنوازع المذهبية والطائفية. لا يمكن التماس مفهوم الدولة في لبنان، وما نعنيه في هذا الصدد هو دولة المؤسسات. هل بالفعل هنالك مؤسسات في لبنان الدولة؟ نظرياً نعم، ولكن واقعياً ينتفي وجود هذه المؤسسات لأن معايير قيام الدولة غير موجودة. من الناحية القانونية، هنالك ثلاثة معايير أساسية لا يمكن للدولة أن توجد بالفعل بدونها. الديموقراطية وسيادة القانون والفصل بين السلطات.
في لبنان، لا يوجد ديموقراطية، فالأحزاب السياسية المرتبطة بالطوائف الدينية تتقاسم السلطة في الدولة وفق مصالح مشتركة تحت مسمى الديموقراطية التوافقية الذي يكرس محاصصة الطوائف في السلطة، وهذا ما جرى الاتفاق عليه ضمن اتفاق الطائف، لذلك لم يشهد لبنان أي حكومة تكنوقراط فعلية ساهمت في تعزيز قدرة الدولة على النهوض والتنمية. أما لجهة سيادة القانون، فهذا الأمر وبلا شك غير موجود في لبنان، والسبب في هذا الأمر مرتبط بسلطة الأحزاب السياسية ذاتها التي تتخطى النظم واللوائح القانونية. لا يمكن لأي شخص إنكار انعدام ثقة المواطن اللبناني بالقانون والقضاء للوصول إلى الحقوق، فالبحث دائماً عن حلول لتحصيل الحقوق مرتبط بالزبائنية وأنفاق الوساطة السياسية. أيضاً، لا يوجد تطبيق حقيقي وواضح لمعايير الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، وتؤكد جملة الأحداث التي شهدها المجتمع اللبناني منذ فترة طويلة مدى التداخل بين السلطات في لبنان.
سجال التدخّل السافر من قبل السلطة التنفيذية في السلطة القضائية أنتج غياباً تاماً للعدالة الجنائية في قضية ثالث أكبر انفجار غير نووي في العالم وهو تفجير مرفأ بيروت. كشف هذا الملف عن عدالة مقنّعة وغياب للمشروعية وعدم الالتزام بمعايير بديهية في دولة المؤسسات. حالياً، تتجه المجتمعات في لبنان لتطبيق سياسة الأمن الذاتي، وبتنا نشهد عمل ميلشياوي ومظاهر مسلحة في العديد من المناطق لتكريس الحماية التي شكّلت تاريخياً جزء أساسي من التزامات الدولة بموجب العقد الاجتماعي. هذا العقد الذي انهار تقريباً بشكل شبه كلي في لبنان، ولم يعد لدى المتعاقدين مع الدولة أي ثقة بأنها قائمة بالفعل، فكيف لها أن توفّر الحماية.
المُطّلع في الواقع اللبناني سيصل إلى هذه النتيجة من خلال مراجعة استقرائية لجملة العلاقات والروابط بين اللبنانيين وإرثهم السياسي والاجتماعي والديني. تحليل هذا الواقع يؤكد بشكل لا يقبل الجدل أن جميع محاولات بناء دولة مؤسسات في لبنان بعد انتهاء الحرب الأهلية وتوقيع اتفاق الطائف لم تكن ناجحة، بل كرست واقعاً جديداً قائماً على أنماط علاقات توظّف ضمن رغبة القيادات السياسية المرتبطة بالطوائف الدينية.
الإحباط هو عنوان مرحلة ما بعد بدء الحراك الشعبوي البناني الشامل في العام 2019 تحت مسمى التغيير، ولكن ما الذي أنتجه هذا الحراك؟ عملياً، لم ينتج أي شيء مفيد على الأرض الواقع باستثناء أنه ساهم بتعرية الواقع الهش للدولة والمجتمع. عاد المجتمع في لبنان لمرحلة من الإحباط لا تزال مستمرة حتى الآن بعد الانتخابات النيابية الأخيرة والتي أيضاً عادت لتكرر التجارب السابقة. كان المطلوب لدى قاعدة جماهيرية واسعة من اللبنانيين إزاحة يد أحزاب الحرب الأهلية عن السلطة السياسية وإلغاء تحكمها الفعلي بمؤسسات الدولة، ولكن الممارسة الانتحابية الشكلية أعادت إنتاج ذات الأحزاب السياسية من خلال شخصيات جديدة فقط، وبقيت أيضاً شخصيات سابقة ضمن البرلمان اللبناني.
السؤال هنا، هل بالفعل أراد الشارع اللبناني المتجه للتغيير هذه النتيجة؟ بالطبع كلا، لكن الإرادة التغييرية لم تكن مبنية على أسس واقعية وعملية من شأنها أن تحقق التغيير بالفعل. لا يمكن للاحتقان الشعبي وثورة الغضب الوصول إلى أي نتيجة من شأنها الوصول لواقع سياسي جديد، فالحراك الشعبي في لبنان بذاته هو حراك هش وغير صلب ولم يكن مبنياً على أساس سليم. كان شبيهاً إلى حد كبير بموجات الحراك الشعبي التي شهدتها العديد من الدول العربية فيما بات يعرف بالربيع العربي الذي فشل في إنتاج واقع سياسي جديد يلبي التطلعات التغييرية.
التحليل الاستقرائي لتجارب المجتمعات تاريخياً يكرّس نظرية المجتمع كأساس للدولة، وهذا الأمر مفقود في لبنان، فالمجتمع بذاته غير قادر على بناء دولة، ولا يمكن للمجتمع المتناحر والمفتت والغارق في الأزمات إن ينتج هيئة سلطوية مختلفة عنه لتقوم بسياسة الإصلاح. القرار الاجتماعي اللبناني غير موحّد داخلياً وهذا ما ينعكس على تجزئة السلطة في الدولة وتقاسمها، ولا يوجد إيمان حقيقي لدى الجمهور بالهيئة السلطوية الشاملة، لكن الإيمان الوحيد الذي يمكن التماسه هو إيمان مجتمع ما بقيادته الطائفية أو السياسية، وهذا الأمر ينفي الثقة لدى المجتمع الكلي بسلطة كلية موحدة.
النظر إلى الأزمات المتراكمة في لبنان تبيّن عمق الأزمة في المجتمع اللبناني ذاته، فهو منقسم تجاه هذه الأزمات، ولكل فئة أو جماعة نهجها لحل تلك الأزمات، خاصة وأن بعض الأزمات كانت إنتاجاً محلياً لسلوكيات بعض الفئات، وتم تصديرها إلى الداخل اللبناني لتفرض واقعاً شمولياً على جميع مكونات المجتمع اللبناني وتصادر القرار المحلي. عملياً، يمكن الاستدلال على هذا الواقع من خلال بعض الأمثلة، فمع بدء النزاع المسلح والحرب الأهلية السورية، تم تداول مصطلح النأي بالنفس في أروقة السياسة اللبنانية الداخلية، ولكن ما النتيجة؟ الانخراط الكامل وشبه الكامل في هذا الصراع ونقله إلى لبنان معنوياً ومادياً. والضحية هو المجتمع اللبناني ومؤسسات الدولة اللبنانية التي لم تكن قادرة ولن تكون في ظل هذا الوضع قادرة على احتواء أية أزمات.
هنالك نقطة تحليل أساسية لا يمكن إغفالها في هذا الشأن وهي أيضاً تتعلق بالمجتمع اللبناني بذاته، فالقرار الوطني مُصادر عملياً والسوابق التاريخية تبيّن إلى أي حد جرى تنفيذ الأجندات والقرارات الدولية على الأراضي اللبنانية. إلا أننا نعيد ونؤكّد أن مسألة القيامة في هذا البلد مرتبطة بشعبه وليس بقرار خارجي أو بأجندات خارجية، فالقضية اللبنانية حالياً هي قضية ثانوية مقابل قضايا دولية أو إقليمية أخرى لاقت صداها ووقودها على الأراضي اللبنانية.
هذا الواقع رسّخ العنف الشامل لدى جميع مكونات المجتمع اللبناني، وعملياً، لا يوجد أي حزب سياسي أو طائفة دينية في لبنان لا تنتهج العنف في خطابها المحلي تجاه بقية الأحزاب أو المكونات الدينية والاجتماعية. التحليل الاستقرائي للخطاب الاجتماعي والسياسي والديني مجبول بالعنف ويقابله العنف المضاد الذي يبقي لبنان والمجتمع اللبناني ضمن دوامة من العنف بلا نهاية.
منذ العام 2011 وبعد تصدير قضايا إقليمية ودولية إلى الداخل اللبناني، ازدادت وتيرة العنف ضمن الخطاب السياسي والاجتماعي والديني، وهنالك أمثلة كثيرة لا يمكن إحصائها عن هذا الأمر. تم استعمال العنف للتهديد بالقوة وللتعبير عن الاستعداد لتجسيد هذا العنف عملياً. إذا ما نظرنا إلى الخطاب السياسي الصادر عن الكتل النيابية والأحزاب السياسية ولدى بعض القيادات الدينية الطائفية سنلاحظ بكل وضوح كمية العنف الموجه عموماً أو خصوصاً لفئات أخرى. الخطورة في هذا الأمر تتجسد في خطورة العلاقة بين القيادات السياسية والطائفية وبين جمهور تلك القيادات، والواقع المُعاش يثبت بوضوح الاستعداد الكلي لدى هذا الجمهور لتنفيذ أية توجهات سياسية أو اجتماعية خاصة بتلك القيادات.
العلاقة بين الجمهور والقائد الديني أو السياسي في لبنان خطير جداً لدرجة أن الجمهور يتبنى الخطاب السياسي والطائفي بشكل شبه أعمى دون التفكير بعواقب هذا الخطاب الذي من الممكن أن يخلق نتائج سلبية بالمطلق على الجمهور ذاته قبل أن يخلقها في لبنان بشكل عام. هذا الأمر يوضح ما تحدثنا عنه سابقاً بأن التبعية السياسية والطائفية في لبنان تتفوق على تبعية المواطنة وتنفي تبعية المواطن للدولة.
استنساخ الماضي هو سمة واضحة في الواقع اللبناني الحالي ولا يمكن الجزم بعدم تكرار تجربة الحرب الأهلية اللبنانية، فالمؤشرات الواقعية تشير إلى كمية هائلة من الاحتقان الطائفي والاجتماعي والسياسي الذي يمكن أن يسبب انزلاق لبنان إلى الحرب والصراع، خاصة وأن الدولة اللبنانية حالياً وفي ظل الأزمات المتلاحقة أصبحت غير قادرة على ضبط الوضع المحلي وغير قادرة على التدخّل في القضايا التي من شأنها أن تعزز وجود العنف أو الانزلاق نحو العنف. هذا الأمر بدا واضحاً عندما تغيّر الخطاب السياسي والاجتماعي الخاص ببعض الفئات السياسية والاجتماعية في لبنان، وتم التعبير عنه بوضوح بصورة مفادها أن عدم قدرة الدولة على توفير الحماية ستجعلنا مجبرين على حماية أنفسنا وهذا الأمر تجسيد فعلي لخطاب العنف واستعداد لاستعماله.
إن أية محاولات حالية لعزل لبنان عن التطورات الإقليمية والدولية هي محاولات عبثية، فالقرار اللبناني غير موحد بالنسبة للعديد من هذه القضايا، وهذا الأمر ليس جديداً، لكن الوقت لم ينفذ بعد أمام البدء بمحاولات تحصين لبنان ومنعه من الانزلاق نحو حرب أهلية من جديد. قد لا يمكن التحكم بالتوجهات السياسية الخاصة ببعض الفئات في لبنان، لكن على الأقل، من الضروري جداً في الوقت الحالي تكريس نهج حيادي شامل يبعد لبنان عن أية أجندات خارجية تنعكس عليه داخلياً وهذا الأمر بحاجة لخطاب سياسي واجتماعي متسامح بعيد عن العنف أو التهديد باستعمال العنف. من وجهة نظرنا، الوصول إلى مرحلة الاستقرار الأولي على طريق الاستقرار الكلي مرتبط بإعادة نظر اللبنانيين أنفسهم بعلاقاتهم مع قياداتهم السياسية أو الدينية، فاستقراء التاريخ أمر مهم في حياة الشعوب للتعلم من تجارب الماضي وليس تكرارها.