ملف المعتقلين والمغيبين قسراً من اللبنانيين في السجون السورية: منهجية المطالبة بالعدالة الجنائية .

ملف المعتقلين والمغيبين قسراً من اللبنانيين في السجون السورية: منهجية المطالبة بالعدالة الجنائية .

الدكتورة مريم عبد الله اسحق

السياق السابق لقضية المعتقلين والمغيبين قسراً من اللبنانيين في السجون السورية :
تعود هذه القضية في جذورها إلى فترة الحرب الأهلية التي بدأت في العام 1975، ففي السادس من حزيران من العام 1967، دخلت القوات العسكرية السورية إلى لبنان وفق هدف معلن مرتبط بالحفاظ على الوحدة العربية، ومنع تقسيم لبنان، والمساهمة في فرض الأمن، في حين أن دخول الجيش السوري إلى لبنان كان مرتبطاً بالطموحات التوسعية لحافظ الأسد، بعد أن كان له دور كبير في دعم الفصائل الفلسطينية المسلحة على الأراضي اللبنانية، والتي شاركت في الحرب الأهلية بصورة فاعلة. خلال تلك الفترة، لعبت المنظومة الأمنية والعسكرية السورية دوراً كبيراً في تغذية الصراع المسلح الأهلي في لبنان، والتدخل في السياسة الداخلية، واستطاع نظام حافظ الأسد إحكام القبضة الأمنية على الدولة اللبنانية بشكل واضح بعد توقيع معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق بين دمشق وبيروت في العام 1991، التي كانت بمثابة فرض وصاية كاملة على الدولة اللبنانية.
خلال فترة الوصاية القسرية تلك، قامت القوات الأمنية والعسكرية السورية باعتقال المئات من اللبنانيين ضمن مراكز احتجاز ومعتقلات تحت إشرافها الفعلي على الأراضي اللبنانية، في حين أن جزء كبير من أولئك المعتقلين نقلوا إلى الأراضي السورية، وتم وضعهم ضمن سجون عسكرية مثل سجن تدمر وسجن صيدنايا.
في الرابع عشر من شباط 2005، تم اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق، الشهيد رفيق الحريري، وقد أدى هذا الأمر لتحولات كبيرة في المنطقة، فقد تم توجيه الاتهام المباشر إلى نظام الأسد بمسؤوليته عن تنفيذ عملية الاغتيال، وهو ما أدى لردود فعل محلية ودولية أدت لإنهاء الوصاية السورية على لبنان وخروج الجيش السوري بتاريخ السادس والعشرين من نيسان من العام 2005، وقد عادت قضية المعتقلين اللبنانيين لتطرح كقضية رأي عام مرتبطة بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي ارتكبتها قوات نظام الأسد طيلة فترة وجودها الفعلي على الأراضي اللبنانية، وهذا ما خلق عامل ضغط على السلطات اللبنانية لحل هذا الملف مع نظام الأسد، إلا أن العديد من تلك الجهود باءت بالفشل، خصوصاً وأن نظام الأسد تعمّد إنكار وجود معتقلين لبنانيين ضمن سجونه.
أثر العلاقة السياسية مع نظام الأسد على ملف المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية :
اتخذت هذه القضية منحى جديد في العام 2018 عندما أقر البرلمان اللبناني القانون رقم 105 المتعلق بالمفقودين والمخفيين قسراً، والذي تضمن الاعتراف بحق العائلات في معرفة مصير ذويهم، ونص على إنشاء هيئة وطنية مستقلة للكشف عن مصير المفقودين، إلا أن منهجية تنفيذ هذا القانون لم تحقق أية نتائج عملية في هذا السياق، والسبب الرئيسي مرتبط بطبيعة العلاقة السياسية بين لبنان وسوريا منذ العام 2011 على وجه الخصوص، والتي ساهمت بتعقيده، فقد أعلنت الحكومة اللبنانية عن سياسة النأي بالنفس تجاه الدخول بأي أجندات سياسية تخص النزاع المسلح في سوريا، وعلى الرغم من ذلك، لم يكن هنالك تطبيق حقيقي لهذه السياسة مع دخول حزب الله كطرف مساند لنظام الأسد، الأمر الذي أدى لتداعيات سلبية ضمن الداخل اللبناني ناتجة عن الخلافات الداخلية بين القوى السياسية اللبنانية، ما سبب جموداً في تفعيل أية إجراءات متعلقة بالكشف عن مصير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية.
تحولات ما بعد سقوط نظام الأسد :
في الثامن من تشرين الثاني من العام 2024، سقط نظام بشار الأسد بعد خمسة عقود من الاستبداد بالسلطة السياسية، ما سمح بإعادة فتح ملف المعتقلين والمغيببين قسراً من اللبنانيين في السجون السورية، فقد كشف سقوط نظام الأسد عن انتهاكات فظيعة بحق المعتقلين في سجن صيدنايا وغيره من السجون التابعة للأفرع الأمنية وأجهزة المخابرات السورية، ما دفع عائلات المعتقلين اللبنانيين إلى إعادة المطالبة بالكشف عن مصير ذويهم المغيبين في السجون السورية، خصوصاً وأن عدد من هؤلاء المعتقلين قد جرى تحريرهم بالفعل، وعادوا إلى لبنان في الأيام التي تلت سقوط النظام، حيث أدلوا بشهاداتهم أمام اللجنة القضائية التي يرأسها النائب العام الاستئنافي القاضي زياد أبو حيدر، وأكدوا وجود معتقلين لبنانيين في السجون السورية.
تشير التقارير الحقوقية إلى أرقام كبيرة من المعتقلين الذي قضوا داخل أقبية السجون في سوريا، فقد أصدرت منظمة العفو الدولية تقريراً يوثق الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان من قبل أجهزة نظام الأسد الأمنية والعسكرية في سجن صيدنايا وغيره من السجون، والتي تعرض فيها هؤلاء المعتقلون إلى أقسى صنوف التعذيب الممنهج، وتم دفن الآلاف من الضحايا بمقابر جماعية وفق ما أكدته شهادات الناجين والمنشقين عن نظام الأسد.
لجأ هذا النظام إلى التخفيف من أعداد المعتقلين خلال سنوات النزاع المسلح في سوريا عن طريق إصدار أحكام سريعة بالإعدام تحت ذريعة الإرهاب، بالتزامن من موت عدد كبير منهم نتيجة التعذيب والممارسات اللاإنسانية، وكان لهذا الأمر دور كبير في فقدان الأمل من وجود معتقلين لبنانيين على قيد الحياة في السجون السورية بالنظر إلى طول فترة اعتقالهم، والممارسات الوحشية بحق من يتم اعتقاله ضمن تلك السجون.
إعادة تفعيل الملف في ظل التحولات السياسية ضمن سوريا ولبنان :
إن سقوط نظام الأسد في سوريا كجزء من التحولات السياسية البارزة في المنطقة فتح المجال أمام السلطات اللبنانية لإعادة إحياء ملف المعتقلين اللبنانين، لجهة التواصل مع السلطات السورية الجديدة بهدف الكشف عن مصيرهم، إلا أن هذا الأمر ليس بالسهولة الممكنة في ظل الوضع السياسي الراهن ضمن سوريا، فهو مرتبط بملف العدالة الانتقالية كمنهج عمل تم الإعلان عنه في مقررات مؤتمر الحوار الوطني السوري الذي تلى سقوط نظام الأسد، خصوصاً وأن مؤسسات الدولة في سوريا انهارت بسقوط النظام، وأصبح من الصعب الكشف عن الوثائق المتعلقة بملفات المعتقلين والمغيبين قسراً في السجون السورية.
من الناحية العملية، لا توجد أية معطيات دقيقة حول المعتقلين اللبنانيين والمغيبين قسراً في السجون السورية لدى السلطات اللبنانية أو لدى لجنة التحقيق التي تولت هذا الملف، وعلى الرغم من وجود انفتاح من الإدارة السورية الجديدة حول العمل المشترك بخصوص هذا الملف مع السلطات اللبنانية، إلا أن التجاذبات السياسية التي تشهدها سوريا في الفترة الحالية قد تساهم في عرقلة الوصول إلى معطيات جديدة، لا سيما وأن معظم السجون التي كانت خاضعة لإشراف قوات نظام الأسد كانت قد فتحت بسقوط النظام وتم إخراج جميع المعتقلين الموجودين فيها على قيد الحياة، الأمر الذي يشكل إحباطاً لأية آمال بوجود معتقلين لبنانيين لا يزالون على قيد الحياة في سوريا.
إن إعادة تفعيل هذا الملف مرهون حالياً بالاستقرار السياسي في سوريا، وهذا الأمر قد يحتاج إلى وقت طويل، خصوصاً في ظل الخلافات بين المكونات الاجتماعية والقوى السياسية السورية حول طبيعة وشكل نظام الحكم، فمسار العدالة الانتقالية الذي جرى الإعلان عنه كواحد من مقررات مؤتمر الحوار الوطني لا يزال خارج نطاق التفعيل، الأمر الذي قد يجعل من الوصول إلى تفاهمات أو عمل مشترك مع السلطات السورية الجديدة أمراً صعباً للكشف عن مصير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية.
آلية ممنهجة للمحاسبة الجنائية وتحصيل حقوق الضحايا :
لا يمكن للسلطات اللبنانية الاعتماد على تفعيل مسار العدالة الانتقالية في سوريا للحصول على نتائج بخصوص ملف المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية، فهذه المسألة هي مسألة متعلقة بالتوافق بين المكونات والقوى السياسية السورية كشأن داخلي سوري لرسم ملامح المستقبل السياسي، وبالتالي، من المفروض إنشاء مسار عمل منهجي بخصوص هذا الملف.
يعتبر نظام الأسد المسؤول الرئيسي عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بحق المعتقلين والمغيبين قسراً من اللبنانيين في السجون السورية، وهذا الأمر يشكل واحدة من الجرائم الدولية التي قام نظام الأسد بارتكابها، والتي تستوجب المطالبة القضائية بالمحاسبة الجنائية ودفع التعويضات العادلة لذوي هؤلاء المعتقلين، وهذا الأمر يحتاج إلى تحرّك فاعل من قبل السلطات اللبنانية في هذا الخصوص.
من الناحية القانونية، يمكن للدولة اللبنانية أن تتقدم بطلب رسمي إلى منظمة الأمم المتحدة بهدف تشكيل لجنة لتقصي الحقائق، من شأنها تولي عملية التحقيق في ملف المعتقلين والمغيبين قسراً من اللبنانيين في السجون السورية، حيث يمكن من خلال هذا الأمر المطالبة بتشكيل محكمة جنائية دولية خاصة لملاحقة مسؤولي نظام الأسد قانوناً والمطالبة بالتعويضات المادية العادلة، خصوصاً وأن لبنان لديه المصلحة والصفة القانونية اللازمة للتحرّك القانوني بهذا الشأن على الصعيد الدولي.
لقد تم إنشاء مثل هذه المحكمة سابقاً بخصوص النظر في قضية اغتيال الشهيد رفيق الحريري، وبناء على قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1757 لعام 2007 تم تحديد صلاحياتها وولايتها، وبالتالي، فإن العمل القانوني المنهجي في هذا الشأن يحتاج إلى ضغط من المجتمع المدني اللبناني وإرادة سياسية فاعلة من قبل الدولة اللبنانية لتحصيل حقوق الضحايا وذويهم.

Spread the love

adel karroum