هل يؤدّي الاتفاق السعودي – الإيراني الى عودة العلاقات الاقتصادية بين لبنان والخليج الى ما قبل القطيعة ؟
تراجعت العلاقات الخليجية-اللبنانية بسبب انخراط حزب الله في الحرب السورية وتقدُّم النفوذ الإيراني في المنطقة ومنها لبنان، وتشهد هذه العلاقات، كحال المنطقة راهنًا، حالة ترقب بانتظار اتضاح ملامح سياسة الإدارة الأميركية الجديدة.وتداعيات الاتفاق السعودي الايراني في بكين .
تقدِّم التحليلات الموضوعية قراءةً في مسار العلاقات اللبنانية-الخليجية في السنوات الأخيرة وأسباب ترديها. وترى أن التحول الجدي في هذه العلاقات بدأ في العام 2012، نتيجة انخراط حزب الله في القتال في سوريا دفاعًا عن نظام الأسد، وأنه تكرس بعد ذلك نتيجة مواقف الحزب الداعمة لتوسع النفوذ الإيراني في المنطقة.
ومع اشتداد الصراع السوري ثم اشتعال صراعات في دول عربية عدَّة، بينها اليمن، اتهمت الرياض طهران بالتدخل فيها، تدهورت العلاقات بين دول مجلس التعاون الخليجي والحكومة اللبنانية التي يشارك فيها حزب الله، وقرَّر المجلس إبعاد لبنانيين «موالين للحزب» من أراضي دوله، وتصنيفه «منظمة إرهابية». كما قرَّر حظر سفر الرعايا الخليجيين إلى لبنان، وتراجعت السعودية من جهتها عن تمويل صفقة تسليح فرنسية للجيش اللبناني.
في أواخر العام 2016، انتُخب ميشال عون رئيسًا للجمهورية اللبنانية، وعاد سعد الحريري إلى بيروت وإلى رئاسة الحكومة، وحاول الحُكم اللبناني الجديد تحسين العلاقات مع الرياض ثم الدوحة عبر استهلال الرئيس الجديد جولاته الخارجية بزيارة العاصمتين الخليجيتين. لكن الأمور ظلت معلقة، خصوصا مع احتدام الحرب في اليمن، ومع انتخاب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة الأميركية. فالأخير، وعلى نقيض سلفه، أوباما، الذي أعطى الأولوية للاتفاق النووي مع الإيرانيين، أعلن عزمه على مواجهة إيران وتقليص نفوذها، وأعلن في الوقت عينه رغبته بالتعاون مع موسكو التي كانت قد تدخلت عسكريًّا في سوريا وأوقفت سلسلة هزائم الأسد وحلفائه في شمال البلاد وجنوبها.
وفي انتظار ترجمة ترامب تصريحاته الكثيرة إلى سياسات شرق أوسطية واضحة، قد تؤثِّر في أحوال العراق وسوريا ولبنان وفلسطين واليمن، تبدو حال الانتظار والترقب سائدة في المنطقة، كما في العلاقات اللبنانية-الخليجية.
وقد اكتسبت العلاقات اللبنانية-الخليجية تاريخيًّا أهمية سياسية واقتصادية، تضاعفت بعد الطفرة النفطية، عام 1973، إنْ لجهة سفر مئات آلاف اللبنانيين على مدى عقود للعمل في دول الخليج، أو لجهة الدعم المالي الذي وفرته بعض هذه الدول للحكومات اللبنانية المتعاقبة، أو لجهة الاستثمارات والسياحة الخليجية في لبنان، أو حتى لجهة الإعلانات وشراء الأسهم في وسائل الإعلام اللبنانية المختلفة، مع ما رافق ذلك من تأثير سياسي خليجي في بيروت.
ومع وصول رفيق الحريري إلى رئاسة الحكومة اللبنانية، عام 1992، بعد أدوار وساطة له خلال الثمانينات ثم عشية اتفاق الطائف بين الأطراف اللبنانية والإقليمية المتحاربة، تحولت العلاقات الخليجية-اللبنانية، لاسيما السعودية-اللبنانية، إلى واحدة من دعائم الحُكم في مرحلة ما بعد الحرب، في ظل تفاهم أميركي-سعودي على تفويض النظام السوري إدارة الشأن اللبناني سياسيًّا وأمنيًّا مقابل إدارة حريرية اقتصادية له.
على أن الإدارة الحريرية الاقتصادية هذه تقلَّصت مفاعيلها بعد العام 1998، عام انتخاب قائد الجيش اللبناني، إميل لحود، رئيسًا للجمهورية وعام استلام بشار الأسد إدارة الملف اللبناني في سياق تحضيره لوراثة أبيه المريض في دمشق(1). وأدَّى الأمر إلى توترات سياسية لبنانية بين المعارضين لهيمنة النظام السوري على لبنان والموالين لها. وتزايدت هذه التوترات بعد انتهاء مفاعيل التفويض الأميركي للنظام السوري، عام 2003، عام اجتياح العراق.
وأفضت التطورات المذكورة إلى صدام سياسي كبير بين المعسكرين اللبنانيين(2)، انحاز فيه الحريري إلى معارضي دمشق، وما لبث أن اغتيل، في 14 فبراير/شباط 2005. تبع اغتيالَ الحريري تكريسُ الانقسام اللبناني بين ما عُرف بتحالف 8 آذار (مارس) الموالي للأسد والمدعوم إيرانيًّا، بقيادة حزب الله، وتحالف 14 آذار (مارس) المعارض للأسد، المدعوم سعوديًّا وغربيًّا، بقيادة سعد الحريري، نجل الرئيس المغدور(3). واتهم تحالف 14 آذار الأسدَ بالوقوف وراء اغتيال الحريري، وطالب بمحكمة دولية للنظر في الموضوع، كما طالب بخروج القوات السورية من لبنان بعد 29 عامًا على اجتياحها له.
تحقَّق لـ14 آذار، نتيجةَ الضغط الدولي والتحرك الشعبي اللبناني، ما أرادته لجهة الانسحاب العسكري السوري وقيام محكمة دولية خاصة للنظر في جريمة اغتيال الحريري. لكن الأمر تم على وقْع اغتيالات سياسية إضافية طاولت مثقفين وسياسيين وصحافيين وأمنيين لبنانيين معارضين للنظام السوري. وتم الأمر أيضًا على وقع ما بدا انطلاقًا لصراع سعودي-إيراني على النفوذ في المنطقة، خاصة بعد التطورات التالية للاجتياح الأميركي للعراق، التي أوصلت حلفاء طهران إلى الحكم في بغداد(4).
في هذا الوقت، لم تكن دول مجلس التعاون الخليجي جميعها على نفس الموقف تجاه الوقائع السياسية اللبنانية؛ فسلطنة عُمان كانت بعيدة عمَّا يجري، ودولة قطر سعت للعب دور الوسيط بين المعسكرين اللبنانيين المتواجِهين، ونجحت في شهر مايو/أيار من العام 2008، بعد اجتياح حزب الله العسكري لبيروت وإسقاطه الحكومة(5)، في دعوة الأطراف اللبنانية كافة إلى الدوحة حيث وقَّعت اتفاقًا جرى التوافق فيه على ميشال سليمان رئيسًا جديدًا للجمهورية(6)، وعلى قانون لتُجرى الانتخابات التشريعية الجديدة بموجبه. جرت الانتخابات في العام 2009، وانتهت بفوز تحالف 14 آذار بالأكثرية النيابية، فتشكَّلت حكومة ائتلافية برئاسة سعد الحريري، وتوقفت الاغتيالات وبدا أن انفراجًا سياسيًّا، بوساطة قطرية – فرنسية – أميركية، وبتأييد سعودي، سيسوِّي الأوضاع المضطربة في لبنان، وذلك رغم تحول عمل المحكمة الدولية في جريمة الاغتيال إلى مادة خلافية حادة(7).
على أن اندلاع الثورات العربية، بدءًا بتونس أواخر العام 2010، ثم مصر أوائل العام 2011، وصولًا إلى سوريا في شهر مارس/آذار من العام نفسه، بدَّل الأوضاع لبنانيًّا وإقليميًّا وأدخل العلاقات اللبنانية-الخليجية في مسار جديد.
أما اليوم فقد تبدلت الأحوال -أو هكذا ينتظر المراقبون- بعد توقيع الاتفاق السعودي – الايراني في بكين، فهل تعود العلاقات الاقتصادية بين لبنان والخليج الى سابق عهدها؟