عودة: العالم أصبح مبنيا على المصالح والإنسان مسيرا بشهواته ورغباته وأناه
ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الارثوذكس المطران الياس عوده، خدمة القداس الإلهي في كاتدرائية القديس جاورجيوس، بحضور حشد من المؤمنين.
بعد الإنجيل ألقى عظة قال فيها: “تطلق كنيستنا المقدسة اسم أحد النسبة على الأحد الذي يسبق عيد ميلاد ربنا يسوع المسيح، وفيه يقرأ المقطع الإنجيلي الذي يعدد أسماء السلالة التي ولد منها الطفل يسوع منذ إبراهيم حتى يسوع الذي يدعى المسيح. نجد عند الإنجيلي لوقا تسلسلا آخر لنسب الرب. الفرق بين النسبين أن متى كان تسلسله تنازليا، من إبراهيم حتى يوسف الخطيب، أما لوقا فيذكر نسبا تصاعديا مبتدئا من يوسف وصولا إلى آدم أول الجبلة. إن ذكر الأنساب هو تأكيد على حقيقة التجسد الإلهي، ردا على كل مشكك بأنه لم يحدث. أراد الإنجيليان متى ولوقا إظهار اشتراك المسيح في طبيعتنا البشرية كي لا يجرؤ أحد أن يقول إنه ظهر كخيال أو وهم، لأن أتباع بعض الجماعات آنذاك كانوا يحتقرون الجسد وينظرون إليه نظرة دونية، فرفضوا إمكانية أن يتخذ إله حقيقي جسدا لا يليق بألوهيته”.
أضاف: “كان متى يكتب لليهود، فأراد أن يثبت لهم أن يسوع هو المسيا المنتظر، وأنه الملك الحقيقي الذي تنبأ عنه الأنبياء قديما، لذلك افتتح، عن قصد، سلسلة النسب بقوله إن المسيح هو ابن داود وإبراهيم. لقد أهمل أسماء كثيرين قبلهما لأنه أراد تذكير اليهود بأن الله وعد إبراهيم وداود بمجيء المسيح والخلاص من نسلهما. لقد قال الرب لإبراهيم: «يتبارك بنسلك جميع أمم الأرض» (تك 22: 18)، كما قال لداود: «من ثمرة بطنك أجلس على كرسيك» (مز 132: 11)، كذلك نسمع النبي إرمياء قائلا: «ها أيام تأتي، يقول الرب، وأقيم لداود غصن بر، فيملك ملك وينجح، ويجري حقا وعدلا في الأرض» (23: 5). فلكي نصبح نحن أبناء لله، سمح الرب بأن يدعى ابنا لداود، أما داود، ولو كان ملكا، فإنه يبقى عبدا للرب”.
وتابع: “الإنجيلي لوقا، الذي كتب للأمم، ووصل إلى آدم في نسبه، شدد على أن العالم أجمع، أمما ويهودا، تفرعوا من الجبلة الأولى، وبما أن المسيح هو آدم الثاني، فهو يجمع المتفرقين في ذاته، ليعود الجميع ويصيروا أبناء الله بالتبني.الإنجيلي متى يعلن المسيح حاملا لخطيئة البشر، كما نرتل في صلاة السحر: «يا رافع خطايا العالم، ارحمنا»، لذلك نجده يذكر نسبه الطبيعي، حسب الجسد، أي الأب الطبيعي حسب الجسد الذي به ورثنا الخطيئة، لأن اليهود آنذاك كانوا يعتقدون أن الأبناء يرثون خطايا آبائهم ، كما قال داود النبي: «بالآثام حبل بي وبالخطايا ولدتني أمي». أما لوقا الإنجيلي فيعلن عن بنوتنا لله في المسيح يسوع لأن الله الآب تبنانا بابنه الوحيد. فبعد تجسد المسيح أصبح بإمكاننا، نحن البشر، أن نصبح أبناء لله بالتبني إذا أتممنا وصاياه وتبعنا مثاله. أتى النسب مختصا بيوسف وليس بالعذراء مريم، مع أن المسيح ليس من زرعه، لأن الشريعة الموسوية تنسب الإنسان لأبيه وليس لأمه، كسائر المجتمعات. كذلك، لم يأت النسب على ذكر أسماء نساء عظيمات يفتخر بهن معشر اليهود، على مثال سارة ورفقة وراحيل، بل ذكر تامار التي ارتدت ثياب زانية (تك 38)، وراحاب الكنعانية الزانية (يش 2: 1) و«التي لأوريا» التي أثمت مع الملك داود. يعود السبب في ذلك إلى أن الإنجيلي أراد أن يشدد على أن الرب أتى إلى الأرض ليشفي طبيعتنا الخاطئة والساقطة، جاء ليقيمنا من موت الخطيئة، ولم يأت ليؤنبنا، بل ليعلمنا كيفية التخلص من كل تعلق أرضي يتجلى بالخطايا واللذات الزائلة. لقد ولد المسيح من نسل يحوي نساء خاطئات، من أجل خلاص الخطأة. كما أنه ولد من نسب يضم نساء أمميات مثل راعوث وراحاب، ليقول إنه يأتي لخلاص البشرية جمعاء، مخلصا للأمم واليهود على حد سواء. لقد صارت راعوث رمزا للكنيسة التي من الأمم، إذ غادرت بيت أبيها وعبادته الوثنية وعاداته الشريرة، والتصقت بالرب، على حسب ما نقرأ في المزامير: «إنسي شعبك وبيت أبيك فيشتهي الملك حسنك» (45: 11-12).
وقال: “يذكر الإنجيلي متى السبي إلى بابل، ولم يذكر عبودية الشعب في أرض مصر، لأن العبودية لم تكن بسبب منهم، على عكس السبي الذي تم بسبب خطايا الشعب، فكان عقوبة لهم. هكذا، يلمح متى إلى أن المسيح يأتي ليعيد جبلة شعب خاطئ، فيجعله على حسب قلب الله. أما المجموعات الثلاث التي يتألف منها هذا النسب فتشير إلى معاملات الله مع البشر. فالأولى نرى فيها قصد الله ووعده لإبراهيم وتحقيقه للوعد، وفي الثانية نرى فشل الإنسان وتسليمه للباطل على رجاء، أما في الثالثة فنعاين الرجاء محققا بميلاد المخلص.”
أضاف: “إنسان اليوم يتعامل مع أخيه الإنسان نظرا إلى «حسبه ونسبه»، أي يحترم الغني والإقطاعي والبورجوازي، ويرذل الفقير والمسكين والضعيف. أصبح العالم مبنيا على المصالح، وأصبح الإنسان مسيرا بشهواته ورغباته وأناه، يقبل ما يناسب مصلحته ولو على حساب أخيه الإنسان، ويرفض ما لا يتماشى مع تطلعاته. حتى الدول، وبشكل خاص تلك التي تحمل تاريخا عريقا وإرثا في الدفاع عن حقوق الإنسان وحريته وكرامته، تسيرها مصالحها، وإلا كيف تفسر مواقفها من العنف والحروب والنزاعات والسباق إلى التسلح والتجارب النووية وتجارة السلاح والتفاوت في توزيع الثروات؟”
وختم: “لذلك، يأتي إنجيل اليوم ليقول لنا إن المسيح أتى بشريا من نسل فيه ملوك ورعاة ورؤساء قبائل وخطأة، لكي يعلمنا أن البركة يمكنها أن تأتي من وسط الظلام والخطيئة، لأن نعمة الله هي المخلصة والمطهرة. لأجل هذا، دعوتنا اليوم أن نقبل الجميع اقتبالنا للمسيح، لأن الجميع، فقراء وأغنياء، رجالا ونساء، كبارا وصغارا، مخلوقون على الصورة والمثال الإلهيين، وكلهم مفتدون بدم زكي ومدعوون إلى التوبة والبنوة لله”.