بقيادة باحث مصري ولأول مرة.. كيفية إصلاح عيوب المادة الوراثية في كائن حي كامل
فريق بحثي يقوده باحث مصري.. تمكن من دراسة عملية إصلاح الحمض النووي في أسماك الزرد وترميم إنكساراته.. ما يقود إلى تطوير علاجات تمنع حدوث عيوب في المادة الوراثية.. وبالتالي، تحدّ من إحتمالات ظهور أمراض الشيخوخة.
برز مصطلح “إصلاح الحمض النووي” بقوة، عام 2015، عندما مُنحت جائزة “نوبل” في الكيمياء لثلاثة باحثين، هم: توماس ليندال، وبول مودريتش، وعزيز سانكار، تقديرًا لجهودهم في “وضع خريطة لكيفية إصلاح خلايا الحمض النووي التالف على المستوى الجُزَيئي، وحماية المعلومات الوراثية”.
والحمض النووي (DNA) هو جُزَيء غير مستقر، يتحلّل ببطء مع مرور الوقت، ويمكن أن يتلف خلال النشاط اليومي، ولكي تستمر الحياة لا بد من وجود آليات إصلاح ذاتية لإجراء هذه العملية، أمّا الفشل في إصلاح العيوب، التي تحدث في المادة الوراثية، فيؤدّي إلى إحتمالات إصابة الإنسان بالسرطان والإضطرابات العصبية ونقص المناعة والشيخوخة المبكرة.
ومن حسن الحظ أن لدى أجسامنا القدرة على إصلاح انكسارات الحمض وترميمها بشكل طبيعي، لكنها قد تعجز عن أداء هذه المهمة نتيجة مجموعة من العيوب التي تتسبّب في عدم إتمام هذه الآلية.
ولا يزال كثير من أسرار آليات إصلاح الحمض النووي طيّ الكتمان. لذلك، يعكف الباحثون في هذا المجال على دراسة كيفية حدوثها، مستخدمين في ذلك الخلايا المعملية فقط؛ إذ يصعب دراسة تلك العملية على مستوى الكائن الحي بكامله.
ولكن للمرة الأولى، تنجح جهود باحثين من جامعة شيفيلد في المملكة المتحدة، بقيادة البروفيسور المصري، شريف الخميسي، أستاذ الطب الجيني ورئيس قسم الأبحاث بالجامعة، في دراسة ومراقبة عملية إصلاح عيوب الحمض النووي في كائن حيّ كامل وهو أسماك الزرد، ما مكَّنهم من معرفة كيفية حدوثها داخل أجسامنا بشكل ذاتي.
وركّزت الدراسة التي نشرها الباحثون في العدد الأخير من دورية ساينس أدفانسز Science Advances على الدور الذي يؤدّيه بروتين Tdp1، وهو بروتين يشارك في إصلاح فواصل الحمض النووي، إذ يؤدّي النقص في مستوياته إلى التنكّس العصبي التدريجي –فقدان تدريجي في بنية الخلايا العصبية بالمخ أو وظيفتها– لدى البشر، كما يشارك هذا البروتين في إصلاح الضرر الناجم عن النشاط الفاشل لإنزيم الـ”التوبوإيزوميراز” Topoisomerase، وهو إنزيم يُسهم في تعديل طوبولوجيا الـ”DNA”.
يقول “الخميسي” : إنّ الفريق ركّز على فهم الآلية التي تسلكها الخلايا لإجراء عملية إصلاح العيوب التي تحدث في المادة الوراثية، ففي حال لم تتم هذه العملية بشكل سليم وسريع، قد تؤدّي إلى حدوث أمراض أبرزها خرف الشيخوخة، والضمور في الجهاز العصبي، كما يمكن أن تسبّب الإصابة بالسرطان.
وأضاف أن معظم الدراسات، التي أُجريت من قبل، كانت تتم على خلايا تُزرع في المعمل، لكن الفريق تمكّن لأول مرة من إجراء هذه العملية في كائن حي كامل، وكان أمامنا إختياران لإجراء أبحاثنا، إما فئران التجارب أو أسماك الزرد (Zebrafish)، لكن الفريق إختار الأخير.
وعن أسباب إختيار أسماك الزرد، أوضح “الخميسي” أنّ لها عدّة مزايا، أبرزها أنها تتشابه مع الإنسان في آلية الحفاظ على المادة الوراثية بنسبة تصل إلى 99%، بالإضافة إلى أن الجينات المسؤولة عن حدوث الأمراض لدى البشر موجودة بالكامل لدى أسماك الزرد، فضلًا عن أنّ تلك الأسماك تكون شفافةً في عمر صغير، وبالتالي، يمكنك مشاهدة التغيّرات التي تحدث بسهولة.
وتابع أنّ هناك ميزة أخرى لأسماك الزرد تجعلها تتفوّق على الفئران، وهي صغر حجمها، وهذا مفيد في حالة تجربة مركّبات دوائية جديدة، قبل إعتمادها وتجربتها على البشر؛ لأنها تُمكِّن الباحثين من دراسة 96 مركبًا مختلفًا في كل لوحة/ صفيحة تحتوي على 96 أنبوب اختبار 96-Well plate خلال كل مرة، وذلك لإمكانية وضع سمكة صغيرة في العمر في كل لوحة.
تقنية كريسبر
وعن التقنية المستخدمة في الدراسة، أوضح “الخميسي” أنّ الفريق إستخدم تقنية “كريسبر”، وهي أداة مختبرية لتعديل الحمض النووي بُغية إصلاح العيوب الجينية أو تحسين بعض الصفات، وذلك لإزالة بروتين Tdp1 المسؤول عن إصلاح الحمض النووي، إذ تؤدي الطفرات في هذا البروتين إلى حدوث ضمور في الخلايا العصبية لدى الإنسان.
وأضاف أنّ الفريق راقب دورة حياة أسماك الزرد، التي يبلغ معدل أعمارها حوالي عامين، منذ بدايتها حتى الموت، لمتابعة ردة فعل إزالة بروتين Tdp1، ووجدوا أنه عند إزالته في الصغر لم يكن له أي تأثير على عملية إصلاح الحمض النووي لدى الأسماك الصغيرة، لكن تأثيره كان على سلوك الأسماك الكبيرة، بصورة مشابهة لتلك التي تحدث لدى الإنسان المصاب بنقص في مستويات هذا البروتين، وما ينجم عنه من أمراض مرتبطة بالشيخوخة.
وأشار إلى أن النتيجة اللافتة للنظر، أن هناك بروتينًا آخر يحمي الحمض النووي لأسماك الزرد في الصغر، يختلف تمامًا عن بروتين Tdp1، وهو الـapex2 الذي كان مسؤولًا عن حماية المادة الوراثية في مرحلة الصغر، وهذه النتيجة لفتت إنتباه الفريق إلى أنّ الآلية المسؤولة عن إصلاح كسور وعيوب الحمض النووي تختلف في الأعمار الصغيرة عنها لدى الكبار، ولكل مرحلة إحتياجاتها.
وتحدّث “الخميسي” عن أسباب حدوث قصور في الحمض النووي، مُرجعًا ذلك إلى تفاعلات كيميائية تحدث بشكل طبيعي داخل جسم الإنسان، مثل تفاعلات عملية التمثيل الغذائي في أثناء تحويل الغذاء إلى طاقة في الجسم، وما ينجم عنها من شوارد حرة تهاجم الحمض النووي، مشدّدًا على أن هذا أكبر مصدر يؤدي إلى قصور في المادة الوراثية، بالإضافة إلى الأمراض الوراثية، إذ يصاب بعض المواليد بتغيُّرات في بروتينات معينة.
وأضاف أن هناك أسبابًا أخرى تتعلق بسلوك الأشخاص، ومنها التعرض المفرط لضوء الأشعة فوق البنفسجية (UV)، والملوثات الموجودة في الجو، مثل الدخان، بالإضافة إلى العادات غير الصحية في التغذية مثل تناول اللحوم المطبوخة أكثر من اللازم Overcooked meat، وكثرة تناول الأغذية التي تحتوي على المواد الحافظة ومثبتات الألوان.
وحول الخطوات المستقبلية، أشار “الخميسي” إلى أنّ الفريق يُجري حاليًّا تجارب على أسماك الزرد الصغيرة لإختبار مجموعة من المركّبات المستخلصة من الأغذية، لرصد تأثيراتها في تحسين عملية إصلاح الحمض النووي في الصغر، وهو الأمر الذي قد يكون مقدّمةً لإمكانية إيجاد علاجات فعالة لتأجيل أمراض الشيخوخة والتقليل من حدّتها.
وحول فاعلية تقنية “كريسبر” في علاج الأمراض لدى البشر، نوّه بأن الفريق يعمل على مشاريع أخرى في الوقت الحالي، فيما يخصّ العلاج الجيني، وحقّقت نتائج مبهرة، كما أن هناك فريقًا بحثيًّا آخر حقّق نتائج كبيرة في علاج مرض الضمور العضلي الشوكي ALS بإستخدام العلاج الجيني، بنسبة تفوق 85%، وهو المرض الذي أصاب لاعب النادي الأهلي ومنتخب مصر، مؤمن زكريا، ويصيب الأطفال أيضًا.
نتائج ممتازة
من جانبه، وصف صالح إبراهيم، أستاذ علم الوراثة بجامعة “لوبك” الألمانية، نتائج الدراسة بـ”الممتازة”؛ لأنها تواصل الكشف عن الآليات الكامنة وراء آلية إصلاح الحمض النووي DNA repair، وعلاقتها بمجموعة من الأمراض على رأسها السرطان والإضطرابات العصبية، وهي إمتداد لعمل مميّز أنجزه “الخميسي” طوال 10-15 عامًا الماضية في هذه الجزئية، وفق قوله.
وأضاف أن “الخميسي” أجرى في السابق دراسات معمقة حول بروتين Tdp1 ودوره في الإصابة بالأمراض، بجانب الدور الأساسي لهذا البروتين في عملية إصلاح الحمض النووي، وجاءت الدراسة الجديدة كمحاولة لفهم كيفية حدوث هذه العملية بالتفصيل، وما المشكلات التي قد تعوق هذه العملية، وهذه النقطة تندرج تحت التحليل الوظيفي الذي عادةً ما يأخذ كثيرًا من الوقت والجهد؛ لأنه يُجرى على نماذج حيوانية مثل الفئران وأسماك الزرد.
وأوضح أن الفريق توصّل إلى أنّ عملية إصلاح الحمض النووي لا تتم عبر بروتين واحد وهو Tdp1 الذي يؤدّي هذا الدور عند تقدّم الإنسان في العمر، وإنما هناك بروتين آخر، وهو apex2، يسهم في إنجاز تلك العملية في وقت مبكِّر من الحياة، ما يجعله هدفًا علاجيًّا في المستقبل.
واعتبر أنّ النتيجة المهمّة والرئيسية التي توصل إليها الفريق هي الإختلاف الذي يحدث في عملية إصلاح الحمض النووي في وقت مبكر من الحياة، عمّا يتم عند الكبر، وبالتالي فإن هذه العملية لا تسير على خط مستقيم طوال الحياة، بل تتغيّر بتقدم العمر.
وعن أهمية هذه النتائج، رأى أن المعلومات الجديدة التي تتم معرفتها في هذا المجال تساعد في علاج الأمراض وعلى رأسها السرطان؛ لأن بروتينات الـDNA اللازمة لعملية إصلاح الحمض النووي تُعدّ أحد الأهداف العلاجية في العلاج الكيماوي للسرطان، ما يُسهم في تطوير علاجات فعالة للسرطان والإضطرابات العصبية.
أسماك الزرد والتجارب المعملية
ووافقه الرأي أحمد مصطفى، أستاذ المعلوماتية الحيوية وعلم الجينوم في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، مؤكّدًا أنّ نقاط التميز في الدراسة تتركّز في أنها إعتمدت على دراسة بروتين Tdp1 في حيوان كامل لأول مرة وهو أسماك الزرد.
وأضاف أنّ أحد أبرز تلك المميزات أن جنين أسماك الزرد خارجي، وليس داخل بطن السمكة، وهذا يعطي الباحثين فرصة رائعة لمتابعة تطوّر نموه، كما أن الجنين وغلافه الواقي شفافان، وهذه ميزة أخرى تتيح للباحثين مشاهدة الجنين ومراحل تطوره، بالإضافة إلى دورة عمره التي تبلغ عامين تقريبًا، والتي تتيح توافر الأجنة طوال فترات العام، وعدم الإنتظار لفترات طويلة حتى تتوافر أجنة لإجراء الأبحاث.
ولفت “مصطفى” النظر إلى ميزة أخرى، هي أن أسماك الزرد تضع نسلها بالمئات أسبوعيًّا، وهذا العدد الكبير في هذا الوقت القياسي يتيح للباحثين توافر عدد كبير من صغار أسماك الزرد من أجل إجراء تجارب للدراسات الجينية بكفاءة عالية، وإجراء أكبر عدد ممكن من التعديلات الجينية؛ لتوافر النماذج على نطاق واسع.
وحول توقيت وأهمية آلية إصلاح الحمض النووي، أوضح “مصطفى” أن هذه العملية تبدأ لدى الإنسان مبكّرًا، وتحديدًا عند حدوث إخصاب للبويضات وما ينتج عنه من تكوُّن للجنين، مضيفًا أن وظيفتها تتمثل في “ترميم وإصلاح” إنكسارات وعيوب الحمض النووي التي يتعرض لها الجسم بشكل مستمر، لكن في حال عدم عمل هذه الآلية كما ينبغي بسبب وجود خلل أو طفرات وراثية، تزداد فرص الإصابة بالأورام السرطانية والأمراض العصبية.
وأشار إلى أن الفريق البحثي ركز على بروتين Tdp1، وهو أحد الإنزيمات التي تتدخّل في إصلاح الحمض النووي، وترميم كسوره وأضراره الناتجة عن حدوث طفرات جينية في هذا البروتين، وما ينجم عنه من أمراض سرطانية وعصبية، موضحًا أنّ النتائج تشير إلى أن هذا النوع من حيوانات التجارب يبدو مثاليًّا بصورة تكافئ إلى حدٍّ ما الدراسة على المرضى المصابين بطفرات وراثية في هذا الجين.
Scientific American