الحياد اللبناني ضمن واقع جيوسياسي معقّد.

الحياد اللبناني ضمن واقع جيوسياسي معقّد.

الدكتورة: مريم عبد اسحق .

لا يمكن قراءة فكرة الحياد اللبناني كخيار سياسي فقط، في الوقت الذي يجب تحليلها من منظور عدد من المعايير المحلية كالهوية الوطنية، والوعي الجمعي، والعلاقة بين الدولة والمجتمع اللبناني. ومن منظور العوامل الخارجية كالوضع الجيوسياسي المعقّد والصراعات المستمرة في المنطقة، والتي لا تزال تؤثر بشكل مباشر على الوضع الداخلي اللبناني وعلى نمط علاقاته الخارجية.
لقد ارتبطت السياسة اللبنانية بصيغة معقّدة من التوازنات الدقيقة التي ساهمت بإضفاء استقرار نسبي على مجتمع متعدد المكونات الطائفية والاجتماعية ضمن محيط مضطرب نوعاً ما. غير أن تلك المعادلة المرتبطة بفكرة الحياد الإيجابي كآلية للحفاظ على التوازن الداخلي والخارجي معاً لم تعد قابلة للاستمرار في ظل المتغيرات الجيوسياسية الحالية، فقد تحولت سوريا إلى مسرح للتجاذبات الدولية والإقليمية؛ الأمر الذي أدى لخلق واقع استراتيجي جديد يضغط على الداخل اللبناني. وقد شهد لبنان تحولات جذرية بعد الثامن من أكتوبر من العام 2023 أدت لخلق معادلات سياسية وأمنية جديدة، وهو ما وضع الدولة اللبنانية أمام اختبار حقيقي لفرض توازن بين التهديدات الخارجية والضغوط الداخلية.
مسألة الحياد اللبناني لم تكن في جوهرها خياراً سيادياً، بل أداة وظيفية خارجية في الكثير من الأحيان، فلبنان بموقعه الجيوسياسي شكل تاريخياً مساحة للنزاعات بين مشاريع إقليمية ودولية متناقضة، تجسّدت في التجاذبات السياسية والأمنية بين المصالح الاسرائيلية والغربية والإيرانية ضمن الساحة اللبنانية، ولذلك، شكّل الحياد أداة جغرافية لضبط التوازن الإقليمي والحفاظ على الحد الأدنى من الاستقرار في الداخل اللبناني، خصوصاً وأن تلك التجاذبات ارتبطت بجملة من التناقضات الداخلية الطائفية، وبالتالي، كان الحياد واحدة من الأدوات التي جمّدت نوعاً ما تلك التناقضات لتجنّب الانهيار الأمني والدخول في صراعات أهلية.
أما على المستوى الداخلي في لبنان، فالدولة اللبنانية تعاني منذ سنوات من إشكاليات بنيوية متراكمة، أدت إلى خلق هشاشة في مؤسساتها وافتقادها إلى قرار سيادي موحد قادر على ضبط الوضع الداخلي سياسياً وأمنياً. في العام 2019، بدأت الأزمة المالية التي أدت لاضطرابات داخلية سياسية وأمنية، وكشفت عن خلل عميق في بنية النظام اللبناني نفسه نتيجة قيامه على توازنات طائفية مصلحية متضاربة بين المكونات الداخلية. وفي أواخر العام 2023، تعمّق الانقسام بين المكونات اللبنانية في ظل تداعيات تدخل حزب الله في المعركة مع اسرائيل مساندة لحماس في قطاع غزة، حيث سبق هذا الانقسام تجاذبات سياسية وأمنية متكررة ناتجة عن تدخل حزب الله إلى جانب نظام الأسد في سوريا منذ بداية الحرب الأهلية هناك في العام 2011.
لم تستطع الدولة اللبنانية الحفاظ على مكان حيادي تجاه النزاع المسلح في سوريا الذي انتقلت تداعياته إلى لبنان بحكم التداخل الطائفي والسياسي، وفيما بعد السابع من أكتوبر وبدء حرب الاسناد بين حزب الله واسرائيل، استمر موقف الدولة اللبنانية على حاله، حيث يكشف هذا الموقف عن ضعف في القدرات بما يتخطى مؤسساتها الدستورية والتوافق السياسي رسمياً. من الناحية العملية، فإن الحرب مع اسرائيل، وعلى الرغم من طابعها المقاوم، إلا أنها لم تكن خياراً شاملاً يعكس إرادة الشعب اللبناني كاملاً، ولم تتم وفق المستوى القانوني الدستوري أو بموجب التوافق السياسي، وهو ما يجسّد أكبر وأهم عوائق اتخاذ قرار الحياد سيادياً على اعتبار أن الخلافات السياسية الداخلية تنعكس مباشرة على قرار المؤسسات اللبنانية الرسمية.
بعد إبرام قرار وقف إطلاق النار بين اسرائيل ولبنان بتوافق مع حزب الله، شهد لبنان عدد من الاستحقاقات السياسية والدستورية كانتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل الحكومة الجديدة برئاسة القاضي نواف سلام الذي يعمل على تنفيذ بنود عدد من القرارات الدولية المتعلقة بالنزاع بين اسرائيل ولبنان، إلا أن هذه المرحلة لا تزال تشهد تحديات كبرى بخصوص قرار الحياد اللبناني نتيجة تغيّر موازين القوى في الشرق الأوسط وإعادة رسم خرائط التحالفات التي تنعكس مباشرة على الداخل اللبناني، وتهدد بتحويله إلى ساحة مفتوحة لتقطعات المصالح الخارجية مجدداً.
في ظل التحولات الجيوسياسية الحالية، وتزامناً مع إعادة رسم موازين القوى في الشرق الأوسط، لم يعد بالإمكان القول أن الدولة اللبنانية قادرة على النجاح بتنفيذ مبدأ الحياد المطلق، فالمشهد الإقليمي يقود نحو اصطفافات مفروضة على دول المنقطة ومجتمعاتها التي لا تتمتع بعلاقات وطنية مترابطة بشكل كبير. لذلك، فقد الحياد في مضمونه السياسي وظيفته كخيار سيادي إرادي، وتحوّل إلى خيار صعب المنال نتيجة طبيعة التفاعلات الدولية التي تلقي بظلالها على لبنان. ووفقاً لواقع التحولات المتسارعة التي تعصف بالإقليم، يبدو أن فكرة الحياد المطلق فقدت صلاحيتها، وقد بات هذا الشيء مثبتاً بحكم التجارب السابقة. فقد فقدت صلاحيتها كإطار واقعي لإدارة موقع لبنان في توازنات الشرق الأوسط، الذي بات من الواجب أن يتخذ موقعاً ذكياً ومتوزاناً للتوفيق بين متطلبات الحفاظ على السيادة ومتطلبات الحفاظ على الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي. ويمكن القول أن الدولة اللبنانية لن تكون قادرة على اتخاذ قرار الحياد المطلق في بيئة جيوسياسية معقدة كالتي نشهدها، لذلك، لا بد من استراتيجية جديدة تقوم على تحييد الأرض عن الصراعات أولاً، وإنشاء توافق وطني جديد بين المكونات لتنظيم الداخل ثانياً، فبهذه الاستراتيجية، سيكون بمقدور لبنان الحفاظ على متطلبات الحد الأدنى من التعاطي السيادي مع الملفات الخارجية وسحب أية ذرائع للتدخل الخارجي.

Spread the love

adel karroum