لبنان ضمن مرحلة ما بعد التحوّل السياسي في سوريا: التداعيات المحتملة على الأمن اللبناني.
الدكتورة مريم بوكريم
شكّل سقوط نظام الأسد في سوريا أحد أبرز التحولات السياسية الجذرية في المنقطة؛ الأمر الذي يحمل تأثيراً مباشراً على لبنان من النواحي الأمنية والسياسية والاقتصادية. فلبنان لم يكن محصّناً بالكامل تجاه الديناميات الجيوسياسية السورية، بل أن استقراره كان دائماً مرتبطاً بوجود استقرار سياسي وأمني في سوريا، بغض النظر عن شكل هذا الاستقرار أو طبيعته. ومع بداية النزاع المسلح في العام 2011 ضمن سوريا، بدأ مفهوم الاستقرار يتعرض للتآكل، خصوصاً مع انتقال ذلك النزاع من المستوى الداخلي إلى المستوى الدولي وتعدد أطرافه.
فيما بعد سقوط نظام الأسد، كان من المفروض أن تبدأ عملية انتقال سياسي في سوريا لإعادة هيكلة الدولة والمؤسسات وإنشاء نظام سياسي تعددي يجمع كافة المكونات الاجتماعية السورية، إلا أن الخلافات السياسية حول طبيعة نظام الحكم أدت لنمط جديد من الصراع المرتبط بالانقسام الطائفي. وهو ما خلق واقع جديد من الهشاشة الأمنية، وساهمت في ظهور لامركزيات مسلحة وسلطات أمر واقع متعددة. وبالتالي، فإن تفكك المركز في سوريا سيخلق تداعيات مقلقة على لبنان الذي بات مفتوحاً على واقع مجاور تتعدد فيه سلطات الأمر الواقع بما يشمل جماعات مسلحة ذات خلفية أيديولوجية متشددة، وفصائل محلية وكيانات شبه مستقلة يحمل كل منها رؤية ومنهج مختلف ومصالح متناقضة؛ مما يجعل إدارة الاستقرار في لبنان وعزله عن الصراعات الداخلية السورية أمراً معقداً بالنسبة للدولة اللبنانية.
الخطر الأكبر مرتبط بأن التحولات الأخيرة في سوريا ليست مقتصرة على الجغرافية الأمنية، بل أنها تمتد إلى النسيج الاجتماعي اللبناني، فالنزاعات الطائفية التي مزّقت سوريا طوال سنوات الحرب، عادت مجدداً للظهور بنمط جديد أكثر عنفاً وأكثر خطورة. وهو ما قد يطرق ناقوس الخطر بامتداد الشبكات الطائفية العابرة للحدود وعودة الاستثمار الإقليمي في الساحة اللبنانية من قبل الكيانات المتصارعة في سوريا. خاصة وأن كل طائفة لبنانية تمتلك امتدادت سياسية واجتماعية عبر الحدود، ما يجعل انتقال التوترات مسألة بنيوية وليس مسألة ظرفية مؤقتة، فمجرد اندلاع الاقتتال الطائفي في الجنوب السوري أو في الشمال قد يخلق توترات طائفية في الداخل اللبناني وأن ينتج اصطفافات جديدة ضمن واقع جيوسياسي متغير.
مع دخول سوريا في هذا الواقع السياسي المتشضي، قد تتحول الحدود اللبنانية السورية إلى مسرح مفتوح للسيناريوهات الأمنية، وإلى قناة محتملة لتسلل الجماعات الجهادية أو لتمدد الفصائل المسلحة بحثاً عن عمق جيوسياسي. فخلال الأشهر الماضية، بات واضحاً أن العديد من المكونات الطائفية السورية تتجه للمطالبة بالفيديرالية، وهو ما يتقاطع مع جملة من المشاريع الجيوسياسية الإقليمية التي تهدف لتفتيت الجغرافية السورية؛ الأمر الذي يحمل تهديداً خطيراً للجيوسياسة اللبنانية التي قد تتأثر بهذه التجاذبات الخارجية. وفي ظل هذا الواقع، ستتعرض الدولة اللبنانية لضغط واستنزاف جديد ناتج عن محاولة لضبط منطقة لا تخضع لمنطق دولة واحدة على الجهة المقابلة، بل لسلطات متعددة قد تتبدل علاقاتها وقدراتها بسرعة؛ الأمر الذي يضاعف المخاطر الأمنية ويجعل الاستقرار الحدودي هشاً إلى درجة الانهيار عند أول اختبار.
لقد بات لبنان حالياً أمام تحديات مصيرية، فالدولة اللبنانية التي تسعى حالياً لحصر السلاح بمفهوم الشرعية، تواجه العديد من المخاطر المتعلقة بحرب جديدة مع اسرائيل التي تستهدف حزب الله، وهذا الأخير يرفض الالتزام التام بمقررات الدولة اللبنانية حول القوة العسكرية خارج نطاق المؤسسة العسكرية. ومن الناحية المقابلة، تجد الدولة اللبنانية نفسها أمام تحدٍ جديد لضبط الأمن الحدودي مع سوريا، والابتعاد عن ديناميات الصراع الطائفي في سوريا الذي يهدد جيوسياسة لبنان.
الإشكالية السابقة قد لا تجد حلها لدى الدولة اللبنانية فقط، وهو ما يستلزم رؤية لبنانية موحدة تنطلق من إدراك أن حماية لبنان لا يمكن أن تتحقق بالحياد الشكلي، بل باستراتيجية وقائية تحكم ضبط الحدود وتنهي أي فرص لنقل الصراع الطائفي والمشاريع الجيوسياسية الخارجية في سوريا إلى لبنان. فبقدر ما يتعمّق انهيار المركز السوري، بقدر ما تتسع مساحة المخاطر أمام الدولة اللبنانية، التي تجد نفسها مضطرة لموازنة دقيقة بين تجنّب الانخراط في الصراعات وبين منع تسللها إلى داخلها، في معادلة صعبة تجعل من المرحلة المقبلة واحدة من أخطر المراحل التي يمر بها لبنان منذ ولادته.
