إهانة أن يُترك لبنان بين مخالب إيرانية وسورية عقاباً له على ما يقوم به وكلاء إيران وسوريا
المحادثات السعودية- الإيرانية التي أكد الرئيس العراقي برهم صالح أن العراق استضاف أكثر من جولةٍ منها، ملمِّحاً الى جولتين مهمتين، توجّهت الى عُمان كمحطة ثالثة وسط عزم على جديّة السعي لتناول الخلافات واحدة تلو الأخرى. إنه “أوّل المشوار”، قالت المصادر، “والنفَس إيجابي”، والاتفاق على استمرار التواصل يعكس رغبة الدولتين “بالتهدئة وبناء الثقة وتخفيف التوتر” أملاً في إمكان التفاهم ثنائياً وإقليمياً بدلاً من انتظار القنوات الدولية حصراً لحل النزاعات.
مسار الحديث السعودي- السوري مسار آخر مستقلّ عن المباحثات السعودية- الإيرانية مع أن تأثير مسار على الآخر أمر طبيعي. روسيا لها علاقة بالدفع نحو إعادة تأهيل الرئيس السوري بشار الأسد عربياً، وإعادة سوريا الى جامعة الدول العربية، كي تتمكّن من استدراج الأموال العربية والدولية لإعادة إعمار سوريا وضمان مصالحها هناك. لكن، لا علاقة لروسيا بترتيب المحادثات السعودية – الإيرانية حسبما أكد مصدران معنيّان بهذه المحادثات لفتا الى مساهمات دول عربية في تشجيع وترتيب اللقاءات، من ضمنها الإمارات ومصر والأردن، وكذلك الولايات المتحدة.
النقلة المهمّة في العلاقات بين مصر وتركيا هي بدورها مؤشر على اهتمام دول منطقة الشرق الأوسط في أن تحاول معالجة قضاياها وصراعاتها وخلافاتها بين بعضها. من المبكر الاستنتاج أن صفحة جديدة آتية الى الشرق الأوسط، ومن السذاجة القول إن لا علاقة للدول الكبرى بما يحصل إقليمياً. إنما ممكن الإشارة الى مواقف دول كبرى ساهمت في تقويض الثقة بها ودفعت الدول الإقليمية الى التقارب في ما بينها. الولايات المتحدة في الطليعة، لكن الصين وروسيا والدول الأوروبية أيضاً هي موضع شكوك جذرية. حركة الوفود الأميركية في المنطقة لها دلالاتها الإيجابية والسلبية. روسيا تحاول التعويض عن تدهور علاقاتها الأوروبية والأميركية عبر الساحة الشرق أوسطية بالذات عبر إسرائيل وسوريا والسعي وراء التقارب الإيراني – الإسرائيلي. الصين تعمّق موقع قدمها في الشرق الأوسط لإحياء “طريق الحرير”. أوروبا تُنازع وتكاد تكون بلا وزن سوى عبر المفاوضات النووية مع إيران. لذلك من اللافت تحرّك دول عربية للمشاركة في صنع مصيرها وفي ممارسة دور الوسيط إن كان مع إيران أو تركيا. فهل ستستطيع؟
التحدّي المصيري لدول عربية عدة هو السيادة بمفهومها الجدّي بعيداً من المهاترات الإنشائية. بعض القيادات ينكر أن تكون سيادته مرهونة لدى الفاعلين في بلادها، مثل سوريا، حيث روسيا وإيران و”حزب الله” اللبناني شركاء مع النظام السوري في تعريف وإدارة السيادة بل وإخضاعها.
لبنان لم يعد بلداً سياديّاً بعدما رضي حكّامه في أن تكون السيادة اللبنانية رهن القرار الإيراني عبر “حزب الله” وسلاحه الذي يسحب من الدولة، لو كانت ذات سيادة، حق بسط سلطتها على كامل أراضيه. فلبنان اختزل سيادته وأتلف موقعه الإقليمي والدولي.
العراق يعترف أن سيادته مبتورة طالما “الحشد الشعبي” —الذي قرّر البرلمان العراقي أنه جزء شرعي من الهيكل الأمني العراقي— لا ينضبط تحت لواء سلسلة القيادة المركزية chain of command وطالما يأخذ جزء منه أوامره من “الحرس الثوري” الإيراني ويتصرّف كما يشاء على الحدود العراقية- السورية أو نحو المملكة السعودية. وطالما يبقى المصرف المركزي العراقي تحت سلطة جهات تابعة لطهران، فإن أموال الشعب العراقي تُستَنزَف لتمويل مشاريع “الحرس الثوري” الإقليمية لعمليات في اليمن وسوريا أو لتمويل تصنيع الصواريخ عبر “حزب الله” في لبنان.
الرئيس برهم صالح تكلّم عن حاجة العراق الماسة الى السيادة في حديثه الشامل والعميق في الحلقة الافتراضية الـ34 لقمّة بيروت انستيتيوت في أبو ظبي والتي أتت لمناسبة مرور سنة على هذه الحلقات التي استضافت 119 شخصية ضالعة في صنع القرار من 32 دولة، وشارك فيها الأمير تركي الفيصل الرئيس الشريك لي في القمة والجنرال ديفيد بترايوس.
رسالة الرئيس صالح الأساسية هي أن لا حل للعراق واستخدامه ساحة للحروب بالوكالة سوى عبر “ترسيخ سيادة وسلطة الدولة وترسيخ سيادة القانون rule of law”. قال إن ما يسعى وراءه العراق هو أن يكون “بلداً سيادياً مستقراً مزدهراً ويكون جسراً بين مختلف اللاعبين في جيرته”. قال أيضاً إن القوات الأميركية باقية الى حين تمكين قوات الأمن العراقية من الإمساك بالأمور وأن الولايات المتحدة والعراق “متفقان على عدم رغبتهما ببقاء القوات الأميركية في العراق بصورة دائمة للأبد”.
أما بالنسبة إلى التواجد العسكري الإيراني في العراق، فعبّر الرئيس العراقي عن امتنان العراق للدور الذي أدته إيران ضد “داعش”. “ولكن”، أضاف صالح “يجب أن يتمكّن العراق من اتخاذ القرار العراقي والقرارات العراقية السياديّة مثل تلك المتعلّقة بتواجد أية دولة أجنبية، إذا ما اتخذت الحكومة العراقية وقائد القوات المسلحة ذلك القرار بناءً على ما تقتضيه مصلحة العراق”. تحدّث عن إصرار العراق على علاقات “حيوية وجيّدة” مع الجار الإيراني، إنما “يجب أن تكون هذه علاقات بين دولة العراق ذات السيادة ودولة إيران ذات السيادة”.
أقرّ الرئيس العراقي أن الحكومة العراقية لم تتمكّن حتى الآن من السيطرة على تصرفات وتوجهات “الحشد الشعبي”، بالرغم من نجاحها النسبي على جزء منه “فنحن ما زلنا نواجه تحدّي مأسسة هذه القوات بطريقة تجعلها خاضعة بشكل علني للدولة العراقية”.
ما كشفه صالح خلال مداخلته هو استضافة العراق للمحادثات السعودية – الإيرانية في سعي بغداد لممارسة دور اقليمي “وجمع الأطراف المتخاصمة”. تحدّث أيضاً عن تقدّم في المباحثات بين الترويكا العراقية- المصرية- الأردنية وهي بدورها جزء من سعي بغداد لأن تعود لتؤدي دوراً ضمن بيئتها العربية. قال إن من أهم التطوّرات في علاقات العراق في الفترة الأخيرة هي تطويرها مع السعودية والإمارات وبقيّة الدول الخليجية، مشدّداً على الهوية العربية والعمق العربي للعراق. دعم إعادة تأهيل سوريا في جامعة الدول العربية —إنما لنترك هذا الموضوع الى ما بعد الكلام عن المباحثات السعودية- الإيرانية.
لعل هذه المباحثات انطلقت من الاقتناع في أن الرهان على الولايات المتحدة بات خطراً بسبب تجربتين منفصلتين. فلا إدارة دونالد ترامب السابقة وقفت حقاً وبجدّيّة مع السعودية عندما تعرّضت “أرامكو” للهجمات، ولا إدارة جو بايدن الحالية أخذت في الاعتبار أهمية طلب التواجد الخليجي على طاولة المفاوضات النووية مع إيران في شكل ما وأصرّت على فصل المسار النووي في صفقة ثنائية أميركية- إيرانية عن مسار الصواريخ والسلوك الإقليمي التوسّعي لإيران في الجغرافيا العربية. هذا من ناحية السعودية. فلذلك انحسرت الثقة بالحليف الأميركي بالرغم من استمرار العلاقة الأمنية.
من ناحية إيران، فقدت طهران الثقة بأميركا بعدما ألغى الرئيس دونالد ترامب الاتفاق النووي JCPOA ومزّق بذلك الاعتقاد في أن التوقيع مع الولايات المتحدة له صدقية وديمومة. من هنا، تخشى إيران أن تكون العودة الى الاتفاق النووي موقتة وقابلة للتمزيق مع قدوم إدارة لا توافق على الاتفاق. وهكذا أصبحت الثقة بأميركا هشّة.
هذا لا ينفي الخلافات الشاسعة بين السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية ولا يلغيها. فأميركا بتواجدها في المنطقة يشكّل خلافاً جذرياً بين الرياض وطهران، لكن عقيدة النظام الثيوقراطي والنزاع السنيّ- الشيعي والحروب بالنيابة هي التي صبغت العلاقات بالعداء.
لذلك إن المباحثات معقّدة والتواصل يتم عبر القنوات الأمنية. لليمن أولوية، بطبيعة الحال، علماً أن اليمن مسألة تتعلّق بالأمن القومي السعودي وأن لإيران يداً طائلة في حرب اليمن.
وبحسب ما نقلته مصادر وثيقة الاطلاع، إن الكلام يصب في العلاقات الثنائية، وأيضاً في موضوع الاتفاق النووي JCPOA، وهناك نوع من التوافق بين السعودية وإيران على مبدأ تحصين العراق من الخلافات وتعزيز دوره الإيجابي.
ما قيل عن مقايضة اليمن بلبنان “ليس صحيحاً”، كما أكّدت المصادر المطّلِعة نفسها، إشارة الى أنباء زعمت أن إيران وافقت على رفع أياديها عن اليمن مقابل موافقة السعودية عن رفع أياديها عن لبنان بمعنى عدم اعتراضها على تحكّم “حزب الله” به.
المباحثات السعودية- الإيرانية استبعدت في الوقت الحاضر البحث في موضوع لبنان لأن “حزب الله” من أهم النقاط الخلافية بين الرياض وطهران. فالسعودية تُصنّف “حزب الله” “جماعة إرهابية” وتعتبر دوره تخريبياً ليس فقط في لبنان وإنما أيضاً في سوريا واليمن. ولذلك لم يتم تناول لبنان بالعمق لأن لا نقاط لقاء حول لبنان ولا مساحة مشتركة بين الموقفين، حتى الآن.
لبنان عزل نفسه بنفسه واستبعد نفسه عن أحاديث التفاهمات العربية- العربية أو العربية- الإيرانية لأنه في اعتبارات طهران مجرّد ملحق لها وفي الاعتبارات العربية حالة ميؤوس منها.
سوريا وجدت طريقها عبر روسيا ولذلك باتت في طريق العودة الى الجامعة العربية بمباركة الدول العربية التي كانت ترفض قطعاً تأهيل بشار الأسد لاستمراره في السلطة. المسؤولية الأخلاقية والسياسية للدول العربية التي ترتّب وتنظم وتبارك انتشال بشار الأسد وتثبيته في الرئاسة تقتضي أن تشترط عليه احترام سيادة لبنان وإيقاف استخدام حدوده مع لبنان للتهريب والسلب على حساب المواطنين الأبرياء ضحية جشع وفساد واهتراء قياداتهم. المسؤولية العربية تقتضي دفع سوريا الى الموافقة على ترسيم الحدود مع لبنان والتعهّد بعدم استعادة وصايتها المفروضة عليه. ما لم تفعل ذلك، تكون الدول العربية غير صادقة مع مزاعمها في أنها تريد قلب صفحة الماضي في هذه المنطقة التعيّسة لتستبدلها بصفحة احترام السيادة والتفاهمات على مستقبل عصري.
جميل أن تتفاهم مصر وتركيا وأن يقوم وزير خارجية تركيا بزيارة قريبة الى السعودية. جميل أن تستمر المباحثات الإيرانية- السعودية وأن يبدأ الحديث مع سوريا بالرغم من اختراقها إيرانياً. أما ترك لبنان بين مخالب إيرانية وسورية عقاباً له على ما يقوم به وكلاء إيران وسوريا، فإن ذلك إهانة، إضافة الى الجرح الذي يسبب النزيف. بل إنه في الواقع أسوأ استثمار في التموضع العربي إقليمياً وأبشع أنواع المقايضات الصامتة.
النهار العربي